أخبار

زمن الكوليرا..!

من يدخل عالم الروائي “ماركيز” لا يخرج منه بوعيه المحدود للعالم، وإنما يصبح متخماً باللا محدود واللا نهائي.. ثمة خلل سيحدث حتماً في تركيبته الدماغية.. لكنه على أية حال خلل جميل من شأنه أن يعيد ترتيب العقل من الداخل، وأن يكنس الكثير من المفاهيم العالقة في ذاكرة الانطباع العجولة دائماً!
مع “ماركيز” تتبدد مخاوف المواجهة مع الواقع، وتتحول بنية العالم الأسمنتية إلى جثة هشة تستجدي الرأفة والمثول بين العدالة الإنسانية كي تصدر حكمها بإيقاف طاحونة الوقت ريثما يتأوه إنسان آلي لم يعرف معنى الحب ولم يدمن إيقاظ الضمير!
هم بشر عاديون.. طيبون.. وديعون إلى حد السذاجة.. لكنهم لا يسلمون من أيدي المغامرين المتخصصين في إجراء التجارب الوحشية على الجثث الحية.. يستلذون إبادة شعوب بدائية بكاملها لمجرد تجريب أسلحة صيد آلية جديدة.. تستهويهم الأراضي البكر والغابات المأهولة بالسكان والطيور الأليفة والمتصالحة مع البشر.. هناك فقط يمكن للأحمق أن يمارس كل أوهامه دون أن يعبأ بمحاكمة التاريخ ومساءلة القانون أو حتى تعذيب الضمير مؤقتاً!
يدخل “ماركيز” هذه الأجواء الملوثة بالكوليرا ليفضح هشاشة التاريخ واستحياءه من مواجهة الحقيقة واستمراءه للعبة (هكذا هم البشر).. يزيح الستار عن المشهد بشجاعة الذي قاسى من تخريب الحمقى ورداءة القادمين من خارج كوكب الأرض في نزهة على حساب الغرباء الأبرياء والتعساء.. نزهة تنتهي غالباً بحرمانهم من التنفس الطبيعي ومصادرة الهواء الطلق! نزهة تحمل الـ(فيروس) القاتل الذي ينتقل بمجرد الضحك على نكتة سخيفة!
“ماركيز” يوقف المشهد الواقعي ليأخذ فرصته الكاملة في التقاط صورة تذكارية مكبرة، تصلح لأن توضع كوثيقة خطيرة في متحف التاريخ البشري أو حتى ضمن أرشيف الحروب العالمية التي لم يشهدها أحد!
إنها صورة من صور أخرى كثيرة، استوعبت تفاصيلها الدقيقة أسئلة مركبة ومرعبة، يطرحها بجرأة غير مألوفة الروائي “جبراييل غارسيا ماركيز” في روايته الشهيرة (الحب في زمن الكوليرا) التي رغم عدم حداثتها زمنياً ما زالت حتى يومنا هذا تلفت الأنظار وتحرك الشهية لإعادة قراءتها مراراً وتكراراً.. إنها رواية كغيرها من روايات “ماركيز” تفجر الدماغ البشري بديناميت السؤال وتنسف الضمائر الميتة بقنابل المواجهة، ليس إنصافاً للأسوياء في هذا العالم وإنما اعترافاً ضمنياً بأن التفاصيل التي عاشها بعض البشر مزعجة في حقيقتها إلى حد المأساة، وأن إدراك ذلك لا يتحقق إلا من خلال تقمص حالات التجربة ومعايشة طقوسها الساخنة إلى درجة ذوبان جليد التبلد والبلاهة!
“ماركيز” في (الحب في زمن الكوليرا)، وربما رواياته الأخرى أيضاً، لا يعقد سرده الروائي ولا يفتعل حكائيته ولا يصطنع شخوصه، وإنما فقط يسجل ما يحسه ويشعره ويترك بتلقائية لترمومتر عقله ولبوصلة حاسته السادسة حرية التعامل مع الواقع المعيشي اليومي وحرية رصده أيضاً.. ولأن “ماركيز” يستشعر المشهد الحياتي بدون أقنعة، فهو قادر بكل تأكيد على إمتاعنا بكتابة نوعية جديدة ومغايرة نجحت في تكريس مدرسة روائية خاصة تعرف باسم (الواقعية السحرية)، تخرجت منها كتابة استثنائية رائعة رغم ما تسببه لنا من ألم يصل إلى حد الغثيان، لكنه يظل ألماً لذيذاً ربما يفلح في تطهير العالم من أدرانه وتشويهاته، وربما يفلح في ترسيخ حب معافى في زمن خالٍ من الكوليرا!

نصيحة…!
ليت وزارة الصحة الموقرة توزع نسخة مجانية من هذه الرواية للمسؤولين في الوزارة، ليعترفوا بأن (الكوليرا) بمعناها (الماركيزي) يمكن أن توجد في أي بلد، وتستحق أن نتحصن منها خشية الوقوع في مغبة هكذا مرض لا يستثني أحداً!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية