الجريف غرب..!!
حضرت مساء الجمعة تشييعاً و(دافنة) في مقابر الجريف غرب. ورغم أن الليل كان قد انتصف والصبح أزف، فقد وجدت شباباً أصحاب همة كانوا خفافاً عند فزع مصيبة الموت، بكل السحنات حضروا، ومن كل الجهات، أعمارهم تشير إلى أن جلهم دون أو أقل من العشرين، جهزوا اللحد وحفوا التشييع بمهابة الدعاء وخالص التعازي حتى ما عدت أميز أبناء الفقيد من السابلة؛ دون كثيرين أثق أن غد هذه البلاد أفضل بهؤلاء، ظللت كل تلك الساعات أتفرس وجوه الحاضرين.. كانوا كما قلت شباباً وصبياناً في مقام الرجال، وما لفت نظري في الحضور والمشاركة كثافة عددهم رغم أن المتوفى شيخ كبير مقارنة بأعداد الشيوخ والكهول
هبوا إلى القبر فأعدوه، وقفوا جميعاً يتبادلون مراحل الحفر، يزيلون جزءاً ويصلحون آخر.. كان على عهدنا مثل هذه الأمور تتم بإشراف الكبار في السن.. كان الموت برمته منشطاً ليس للشباب فيه حيز، وصرت أسأل نفسي أن هؤلاء الذين يصنعون كل هذا التطوع النبيل قطعاً هم عماد جمهور ونشطاء المواقع الإلكترونية وحفلات الأنس وثرثرات الصبا في هذا السن وانفلاتات المزاح والضحك، ولكن كل هذا لم يمنعهم أن يكونوا سودانيين (جداً)، يتنادون لفعل الخير في أواخر الليل.. وقد تابعت حضورهم، فيأتي الفرد منهم ثم يخرج جواله ويهاتف صديقه أن هلم إلى المقابر لأن فلاناً والد فلان قد توفي، وسرعان ما اكتظت المقابر بهم، من كل الأزقة والحارات بالحي العريق.
إن أعمالاً صغيرة مثل هذه وكبيرة أيضاً، تعطي مؤشرات ذات دلالات عن أجيال تُظلم في منابر كثيرة، وهي أجيال تدفع دون ذنب منها فواتير الحروب والدماء والخلافات السياسية، والانهيار الاقتصادي، وتراجع جودة التعليم، وعلو المفاهيم المادية في الجوانب الاجتماعية، ورغم كل هذا إلا أنهم احتفظوا بسمت المواطنة المميزة، وأن تكون سودانياً ملبياً للواجب والعون طواعية، وقد شهدنا أجيالهم وأمثالهم في محنة الفيضانات الأخيرة، وكيف أن الشباب ذاته تنادى بالفزع والنصرة، ورأيتهم في رمضان الماضي يسدون الطرقات بالماء القراح والتمر (الأسودين) لإفطار الصائمين، وكلها بذور خير لا ينتبه لها أحد أو يتتبعها.
مستقبل السودان بإذن الله وبفضل أولئك النبلاء أفضل، صباحاته مشرقة ندية، وإن مشى المخذلون في المدينة بالإساءات والشائعات وصورة ذهنية شائهة تصور الأجيال الجديدة وكأنها مظنة عدم المسؤولية والانضباط، وهو استعلاء من الأجيال الأكبر التي عاشت في ظلال أوضاع اجتماعية أكثر تماسكاً، وفي ظل مركزية قابضة في كل شيء، من الإعلام إلى التربية، عكس ما هو كائن الآن من انفتاح لا يتصور معه أحد أن يحتفظ شبابنا بكثير من الخصائص الإيجابية والروح البناءة، متجاوزين سالب تأثيرات هذا الانفتاح عليهم.
إني جد فخور، وأرفع القبعات لواقع ما رأيت وشهدت في الجريف غرب.. والخير في هذه الأمة إلى يوم الدين.