أبوي الناظر!!
{ بين بادية البطانة قي شرق السودان وبادية البقارة في كردفان خيط رفيع، من التشابه والتلاقي والتماثل في التقاليد والأعراف وملامح الناس وثقافتهم.. وحينما غاب “أبو سن” الكبير عن الدنيا (توسد الباردة)، نعته البطانة وبكته نساء الشكرية والبطحانيين. وكان “أبو سن” نجماً في سماء البلد وعذباً في فصل الصيف.. وأمس داهمتنا الكروب والمحن وتخطفت المنية نجماً في فضاء الوطن الكبير، وقلباً اتسع لحب الناس أجمعين.. ورجلاً نخلة وأبنوسة وعرديبة ومهوقني.. غاب عن دنيانا بجسده وروحه الناظر “أبوي” “الحريكة عز الدين حميدة”، وبقيت خصاله وقيمه حاضرة في النفوس.. غاب نجم المسيرية الزرق والحُمر والحوازمة والرزيقات والنوبة والداجو وحمر وكنانة، برنو وبرقو وبديرية وفلاتة.. كواهلة وأولاد حميد .. وتوارى عن أنظارنا ناظر عموم المسيرية الزرق.. “أبو الحريكة” الذي ورث الحكم عن والده “عز الدين حميدة”.. جلس على كرسي النظارة والأمارة في تواضع الكبار وصبر الأنبياء.. داهمته مشكلات ونزاعات وحروب ومحن وواجهها بصبر وابتسامة ورقة إحساس وومضة خاطر.. وصلابة مواقف وشجاعة فارس.. مثل أهله في عهد مايو عن دائرة “لقاوة”. وكانت داره في “الأبيض” ملاذاً للحاري والجوعان.. الغاشي والماشي..تستقبل الناس دون سؤالهم عن مقاصدهم.. يطوف يومياً على شرطة الجوازات شاهداً على سودانية سودانيين من أهله وعشيرته، يمنحهم وثيقة تثبت ما هو مثبت أصلاً.. يدفع للطلاب رسوم الدراسة ومصاريف داخلية خور طقت الثانوية.. حتى ذهبت مايو .. وجاءت الانتفاضة ليعيد المسيرية الثقة في الناظر “الحريكة” ممثلاً لهم في الجمعية التأسيسية عن حزب الأمة القومي.. لكنه سرعان ما خرج عن عباءة الحزب يوم إعلان “مبارك الفاضل” وضع حزب الأمة يده تحت أيدي الحركة الشعبية وزعيمها “جون قرنق”.. ودعوة “الفاضل” لفرسان المسيرية بحمل السلاح في وجه الدولة المركزية.. فأصبح “الحريكة عز الدين” الأنصاري محافظاً على مديرية بحري التي كان الاتحاديون والختمية يباهون بها كمركز ثقل لهم وهم يهتفون (بحري لمين لنصرالدين). و”نصر الدين السيد” كان نجماً في فضاء السودان مثل “الحريكة” في الإنقاذ التي رفعته مقاماً يستحقه، فذهب والياً على جنوب دارفور ثم مستشاراً في ديوان الحكم الاتحادي.
وحينما بات “الحريكة عز الدين” شغوفاً بالسياسة بعيداً عن لقاوة والسنوط والدبكر وأبوتولولو، أسند لابنه الناظر “الصادق” مهام الوكيل لينوب عنه.. لكن المسيرية اختاروا “الصادق الحريكة” أميراً في مقعد والده الذي أقعد المرض جسده، ولم يقعد همته وحماسته ومروءته وشهامته.. حتى غيبه الموت مساء (الاثنين). وقد عاش “الحريكة” حياته حاملاً قضية السودان، تنفس بأنفاس الناس الغلابة والبسطاء.. خاصم من أجل قضيته وصالح وفكر إلا بها.. ولا يحيا إلا لها.. وكان من أجلها روحاً لا يدركها التعب وطاقة لا ينالها النفاد، وجسماً لا يهده الجوع وعيناً ساهرة لا يطرقها النوم.
غاب “أبوي” الناظر “الحريكة عز الدين” إلى الأبد ولم يترك لنا إلا القول:
غاب الحريكة والحر علينا اشتد
صيفنا قصر ليلو ونهارو امتد
مات “الحريكة” وبقيت القيم راسخة في تراب بادية كردفان الجنوبية .. والموت يحصد ثمرات الزرع ونحن سراعاً في الدرب ماضون..و(إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُون