الديوان

«محجوب شريف».. كالنخلة هامة.. قامة واستقامة.. وأبسط ما يكون

يتوسد المرض اللعين جسده النبيل.. هو «الشريف محجوب» أو شاعر الشعب الذي ما سكت حسه يوماً عن التغني بمواجع شعبه ومواجده.. هو الصوت الشعري الشعبي الأكثر تأثيراً في الحياة السياسية والاجتماعية في بلادنا، منذ نحو خمسة عقود ظل خلالها والد «مريم» و«مي» مشرحاً حصيفاً وناقلاً أميناً لمطلوبات وأحلام شعبه، يعاني الآن من علة ألمت به جعلته طريحاً للفراش تتابعه نظرات وقلوب الملايين الداعية له بالشفاء العاجل.
«محجوب شريف» غازل المفردة الشعبية المتداولة وأخرج منها سهلاً ممتنعاً وأشعاراً كانت بمثابة السلام الجمهوري لطالبي الحقوق الإنسانية الحقيقية، ولا تزال تمثل الوجه الأكثر إشراقاً في الشعر الشعبي السوداني.. كتب قصائده بلغة الانحياز الكامل لعامة الناس وبسطائهم، ولهذا لم يكن غريباً أن كتب لأشعاره أن تدوّن في أسفار الخلود التي تنحاز لعامة الناس.
عاش «محجوب» حتى الآن شريفاً.. عفيف اليد واللسان.. طاهر السيرة.. مهموماً بقضايا وطنه الكبير.. مناضلاً شرساً عرفته المنافي وأقبية السجون.. ما كسر يوماً قناعاته.. ولا كسرته قناعاته.. ظل طوداً شامخاً ورمزاً لعقود طويلة.. سكب في شعره كل أحلامه بوطن معافى وبحياة أفضل للقادمين.
حنبنيهو..
البنحلم بيهو يوماتي
وطن حدّادي مدّادي
ما بنبنيهو فرّادي
ولا بالضجة في الرادي
ولا الخطب الحماسيّة
وطن بالفيهو نتساوى
نحلم..
نقرا
نتداوى
مساكن
كهربا وموية..
تحتنا الظلمة تتهاوى
وهذه الأحلام لم يدعها «الشريف» محبوسة في أشعاره أو في دواوينه أو يتركها على (كيف) الساسة، ولكنه تحزّم وتلزّم وساند قوله بالفعل، فنشط في العمل الإنساني والاجتماعي وأنشأ عدداً من المنظمات الطوعية المعنية بسد حاجات الفقراء وتشغيل الخريجين، الذين قذفت بهم توازنات السياسة خارج حسابات أن يكونوا موظفين منتجين داخل بلادهم، فأنشأ (النفاج)، وسعى إلى معالجة بعض مشاكل الخريجين ولو جزئياً.. فانتقل من خانة الشاعر إلى مكانة المصلح الاجتماعي.
قدّم «الشريف» كثيراً من جهده وعرقه وراحة باله، وأنفق كثيراً من ماله من أجل أن يحقق بعض العدالة الاجتماعية ولو على مستوى محيطه الضيق، فعاش كريماً مخلصاً لمبادئه باراً بأبنائه وبمن حوله.
لم يكن انحياز «الشريف» للغلابى والمهمشين لتحقيق كسب اجتماعي، مثلما لم يكن مزايدة ليحظى باهتمام إعلامي، بل كان نابعاً من إيمان داخلي بوجوب محاولة تغيير مجتمعه إلى الأفضل، شأنه في ذلك شأن «المهاتما غاندي» و«نيلسون مانديلا» و«سيد درويش» و«مارسيل خليفة».. طوّع أدواته الإبداعية لخدمة إنسان السودان.
معظم الدول التي من حولنا تضع كثيراً من الأشخاص والآثار والقيم كممسكات لوحدتها الوطنية.. تظل هذه الأشياء والأشخاص بمعزل عن النقد والانتقاص من قدرها، وتقف كل المؤسسات الشعبية والرسمية ضد أية محاولة للنيل منه لأنها تكون قد فرضت نفسها بقدرتها على الخلود في ذاكرة الشعوب، فمثلاً عند الهنود هناك «المهاتما غاندي» (وسور الصين العظيم) في الصين. وفي مصر هناك «أم كلثوم» و(الأهرامات) و(السد العالي)، ولهذا فإن انحياز «الشريف» الكامل وغير المنقوص للشعب وقضاياه طوال العقود السابقة، والاحترام الكبير الذي يجده شاعر الشعب من معارضي توجهاته الأيديولوجية قبل مناصريه، والقيمة الفنية العالية وتأثيره القوى والمباشر على معظم الأحداث الاجتماعية والسياسية التي مرت بها بلادنا، وديناميكيته تجاه ما يخفف العبء عن هذا الشعب شعراً وفعلاً يستحق أن نضعه ليكون عنصراً مهماً من ممسكات الوحدة الوطنية.
«الشريف» الآن يعاني من المرض.. لا أعتقد أننا بحاجة إلى أن نذّكر الناس بالدعاء له حتى يقيله رب العالمين من عثرته المرضية، لأن صاحب (السنبلاية) يتجذر في العمق الشعبي السوداني.. وأظن أن كل الناس سيدعون له بشفاء عاجل لا سقم بعده.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية