سد فجوة الغذاء العربي.. هل (يثمر) الالتزام السياسي (قمحاً) ؟!
ثمة إشارات ورسائل واضحة ومباشرة وجهها رئيس الجمهورية «عمر البشير» في خطابه الذي ألقاه في القمة العربية التي انعقدت في الكويت أمس الأول.. وهذه الإشارات ألمحت إلى إمكانية عودة (مارد أفريقيا) إلى مكانه الطبيعي بعد أن عانى ما عانى بسبب الحروب الداخلية المزمنة والأزمات السياسية المتلاحقة التي أقعدت بدوره المهم والمحوري لكي يكون الصوت الأقوى اقتصادياً بما يتوافر له من موارد زراعية ومائية وطبيعية ومن ثروات كامنة في بطن الأرض لم تجد من يزيح عنها التراب.
لعل أبلغ الإشارات التي وجهها الرئيس كان تأكيده على عمق العلاقة الكبيرة والمصير المشترك بين السودان والعرب بقوله: (ننتهز هذه السانحة لنؤكد مجدداً تمسك شعب السودان بهويتهِ وانتمائهِ العربي، والتزامه بميثاق ومبادئ الجامعة العربية كإطار للتضامن والتكامل لتحقيق الأمن والتنمية للشعوب العربية، وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول، ومحاربة الإرهاب والتطرف والاستقطاب الطائفي بأشكاله ومظاهره كافة. لقد كانت الجامعة العربية، وستظل، خط دفاع عن السودان وثوابته)، وفي حديثه إشارة واضحة إلى أن السودان الآن يسعى إلى لملمة ما تبعثر من ثقة من ناحية كثير من الدول العربية استناداً إلى أحداث وقتية حدثت خلال الفترة السابقة، والإيحاء بأن السودان الآن مؤهل تماماً لكي يقوم بدوره المحلي والإقليمي والعالمي في الاقتصاد الزراعي.
{ سلة الغذاء العربي
هل يصبح السودان سلة الغذاء العربي؟ سؤال أرق كثيراً من الباحثين والمتابعين للشأن السوداني محلياً وإقليمياً وعالمياً، فبلادنا لا تنقصها إمكانات باطن الأرض وظاهرها، ومياهها التي تتوزع على وديانها ومزارها بطول البلاد وعرضها، وقد تدق الآن ساعة الحقيقة أمام السودانيين جميعهم لاقتناص الفرصة المناسبة التي من الممكن أن تعيد لهم ريادة صنع الحدث الاقتصادي القادم، ويبدو أن ذلك أيضاً يؤرق بال رئيس الجمهورية الذي قال في القمة: (تذكرون بأننا قدمنا أمام القمة العربية التنموية الاقتصادية والاجتماعية التي استضافتها المملكة العربية السعودية، مبادرة للاستثمار الزراعي العربي في السودان، للمساهمة في سد الفجوة الغذائية العربية، وتحقيق الأمن الغذائي العربي. وبفضل حكمة خادم الحرمين الشريفين، الملك عبد الله بن عبد العزيز آل سعود، ملك المملكة العربية السعودية، في إدارة أعمال تلك القمة ودعمه، أصبحت المبادرة ملكاً للأمة العربية. ومن هذا المنبر أتقدم له، ولولي عهده الأمين، ولكم أخوتي جميعاً، بالشكر والتقدير لمساهماتكم في تبني المبادرة، ونؤكدُ لكم أنّ الشعبَ السوداني سعيد بهذا القرار العظيم. وقد شارفت الدراسات التي أعدها الخبراء على الاكتمال وهي في طور الإجازة من الأجهزة المعنية في الجامعة العربية. كما قمنا بمراجعة هياكل وأطر الاستثمار في بلادنا بما يساعد على تهيئة البيئة المواتية للاستثمارات العربية).. وعضد هذا الاتجاه الخبير الاقتصادي د. «عادل عبد العزيز» الذي قال لـ(المجهر)، أمس، إن خطاب الرئيس أمام المبادرة أكد السير في هذه المبادرة التي احتضنتها العاصمة السعودية الرياض في يناير 2013م والتي تم بناءً عليها عقد اجتماع للمجلس الاقتصادي والاجتماعي لجامعة الدول العربية بدايات هذا العام بالخرطوم، وتم تكليف شركة استشارية عالمية لتحديد المجالات والمشروعات التي سيتم تنفيذها في السودان لتحقيق الجزء الأكبر من الأمن الغذائي العربي.
{ تحديات خارجية وأحاديث مكتومة
ويقول د. «عادل عبد العزيز» إن التطورات السياسية الأخيرة فيما يلي العلاقة بين السعودية والإمارات والبحرين مع دولة قطر هي تطورات وقتية، وستتم معالجتها من خلال الوساطة العربية التي تقودها الآن دولة الكويت، وبالتالي لن تكون مؤثرة على المشروع الإستراتيجي المتعلق بتحقيق الأمن الاقتصادي. وذات الأمر قال به أستاذ العلوم السياسية بجامعة بحري د. «عمر عبد العزيز» الذي أشار إلى أن قضية علاقة السودان بقطر لن تلقي بظلالها السالبة على الدور الاقتصادي المحتمل للسودان، لافتاً إلى أن قضية الأمن الغذائي أقرب إلى القضية الإنسانية التي ليس عليها خلافات، والإجماع هو الجهة الوحيدة التي يمكن أن تحل هذه المشكلة.
{ تحديات داخلية
إن كان حديث الخبراء أكد إمكانية تجاوز السودان للمعوقات الخارجية التي يمكن أن تضعف قدرته على أن يكون سلة للغذاء العربي، فإن د. «عمر عبد العزيز» لفت إلى أن التحدي الأكبر الآن تجاه تحقيق الأمن الغذائي السوداني والعربي يرتبط بالقضايا الداخلية، وأضاف: (العملية الاستثمارية تحتاج إلى ضخ مليارات الدولارات في السودان، وهذا الأمر يرتبط بالوضع الداخلي لدينا، لأن هذه الاتفاقات تتحول إلى مستثمرين يهمهم في المقام الأول أن يضخوها في بلد ينعم بالأمن والاستقرار)، وأشار إلى أن البيئة المحلية السودانية لم يتم تحسينها حتى الآن، وتحدي توحيد الجبهة الداخلية يصبح من المطلوبات المهمة للغاية، ولهذا يصبح من المهم جداً الآن تحقيق التوافق السياسي والأمن، ووقتها ستتنافس هذه الدول على ضخ أموالها تجاه بلادنا.
وأكد د. «عمر عبد العزيز» أن السودان يزخر بإمكانات طبيعية مثل المياه، الأراضي الصالحة للزراعة والثروات الباطنية، ولكن ما يفتقده حقاً هو كيفية إدارة هذه الثروات لصالح إنسانه، والفشل في إدارتها، وعدم الاستقرار السياسي والاقتصادي يصبح هو المعضلة الأساسية، وهؤلاء المستثمرون يحتاجون إلى وضع أمني وسياسي مستقر وتحسين بيئة الاستثمار مثل قوانين الاستثمار وغيرها من المطلوبات الملحة.
ثم ..
أثبتت التجارب أن اعتماد السودان على البترول فقط كممول أساسي لميزانيته قد باء بفشل كبير، ودفع ثمن تجاهله لموارده الزراعية وطاقاته البشرية، وهذا قاد البلاد إلى تحديات اقتصادية لا تزال تؤرق بال قيادة الدولة، وأتت الآن سانحة أن يعود السودان مارداً أفريقيا اقتصادياً باستغلال موارده الكامنة وتشغيل طاقاته البكر، وحسن النوايا الذي يبديه العرب تجاه بلادنا يؤشر على قدرتنا على الخروج من نفق الأزمة الذي أدخلنا له سوء إدارة مواردنا، وإن كان ثمة ما يبعث التطمينات في حديث رئيس الجمهورية بقوله: (قمنا بمراجعة هياكل وأطر الاستثمار في بلادنا بما يساعد على تهيئة البيئة المواتية للاستثمارات العربية. إن نجاح هذه المبادرة سيكون نموذجاً مشرقاً للتكامل الاقتصادي العربي في مجال إستراتيجي وحيوي كالأمن الغذائي).. ويبقى تحويل تلك الإشارات العامة إلى مشاريع حياتية تنبض، أكبر التحديات التي تواجه الاقتصاد السوداني خاصة والعربي عموماً.