(المجهر) تتحصل على قراءة غير رسمية للمؤتمر الشعبي حول الحوار الوطني (1 – 3):
توطئة:
إن القدرة على تشكيل الرأي والموقف السديد، مع إمكان الموازنة بين المصلحة والمفسدة، باستحضار المكان وحركة الزمان، لهي إحدى السمات البارزة التي ميزت الحركة الإسلامية عبر تاريخها الطويل عن غيرها من القوى الفاعلة في المجتمع، فتوخي الإمكان مع الإخلاص لتعاليم الدين وهديه، كان المجاهدة الكبرى التي تصدت لها الحركة والمؤتمر الشعبي باعتباره أحدث تمثلات الحركة الإسلامية فكراً وسعياً، ظل منذ تأسيسه مروراً بأطواره المختلفة ينهج ذات النهج ، تجديداً في الطرح وتقويماً للأداء، ففي لحظة تأسيسه الأولى، كان على تمام الوعي بمتطلبات الواقع، وكيفية النهوض به نحو المعافاة في نظمه وحكومته ومجتمعه، داعياً لإقامة أسس توافقية للحكم الراشد، إشاعةً للحريات ودرءً للفساد، وترسيخاً للسلام عهداً وثقافةً، وانصرف يصوغ الرؤى والتصورات لقضايا البلاد وأزماتها العاجلة، كقضية الجنوب التي تراكم فيها إرث من القول، ثم أزمة دارفور، فأزمة جنوب كردفان والنيل الأزرق وأبيي، وقضية الشرق، يفصل في ذلك القول أوراقاً منشورة وأقوالاً مبثوثة .
وقد بدأ المؤتمر الشعبي تجربة للعمل المشترك مع الشركاء السياسيين عبر مراحل متعددة، كالتفاهم مع الحركة الشعبية أول عهده، ثم السعي نحو توافق وطني جامع لخوض غمار العمل العام بموقف موحد ضد الاستبداد، الأمر الذي تجلى في إعلان جوبا، ثم تجربة الانتخابات العامة، وصولاً لقوى الإجماع الوطني والعلاقة مع الحركات المسلحة .
والمؤتمر الشعبي في ثنايا هذه القراءة يستعرض إضافة لما سبق قراءة للواقع الداخلي والمحيط العالمي تفاعلاً مع فكره وإمكان الواقع الذي يعيش فيه، حصراً للاحتمالات والخيارات المتاحة، وتلمساً للموقف الصحيح والحل الناجع لأزمات البلاد المتفاقمة، ذلك مع فحص مواقف القوى السياسية مختلفة التصورات، ابتداءً من القابضين على السلطة، مروراً على الأحزاب التقليدية والقوى العلمانية والحركات المسلحة، ثم الصف الإسلامي والمجتمع الدولي انتهاءً بالمجتمع السوداني بفئاته المختلفة، وهذا تصويب نحو تعريف المرحلة الراهنة وطبيعة الانتقال المأمول، ومتطلبات ذلك الانتقال، لاسيما دور المؤتمر الشعبي تجاه القوى المختلفة، ودور عضويته نحو التنظيم ورؤاه ومستقبله القريب.
مقدمة :
المؤتمر الشعبي حركة إسلام يسعى منتسبوها لاستيعاب هدي الدين وثمثيله في الواقع تدينا يعنى بالجماعة والفرد، وإصلاحاً شاملاً طلباً للفلاح في الحياة الدنيا وأملاً في رضاء الله في الحياة الآخرة متوسلين لبلوغ تلك المرامي هذا الكيان التنظيمي، فالمؤتمر الشعبي ما هو إلا وسيلة للتعبير عن تدين جماعة مؤمنة كسلفه من صور وأشكال العمل التنظيمي الذي سلكته الجماعة المتدينة عبر مسيرها الطويل سعيا نحو الدين، والدين مثال مأمول، والتدين هو مقدار ما يتمثل منه عند الفرد أو الجماعة ، فيصعد التدين تدرجاً في القيم والرؤى نحو المثال أو يهبط متداركاً عنه، ولكن النبراس أن يظل ذلك الكيان يدور مع الدين حيث دار لا يعدو عنه ولا يعارضه، والحذر ألا تخبو عنده جذوة الدين وألا ينسى أو يسهو عن إدراكه مع تطاول الزمان أو تقلب الصروف والابتلاءات، فمن طبع الإنسان أن يسهو وأن ينسى، ( وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَىَ آدَمَ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ) ولكن من شأنه كذلك أن (يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى) ، وعبر المراحل التي عبرها المؤتمر الشعبي والخطوات التي خطاها كان يتحرى دائماً أين موطئ القدم ، أبعيدٌ عن مأمولِ الدين أم تراه قريباً منه ؟ وشأنه أن يتحرى ذلك دائماً، غير مفتون أو متردد، وذلك إدراكاً أن الغفلة عن مقصد المسير تأتي بتوابع جمة مذمومة لا محمودة ، مضلة لا هادية لحركة التدين، والله عز وجل يبتلي عباده تمحيصاً لهم وتزكية في هذه الدنيا ابتلاء متكرراً، طوراً بعد طور (وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ )، ولقد كانت في سيرة هذه الحركة تمثلات مختلفة لابتلاءات الله تفاعلت معها الحركة بلوغاً لأغراضها المأمولة.
فقد ابتليت الحركة بخيبة أمل في مشروع إسلامي كان أهله بادىء الأمر مستضعفون يخافون أن تتخطفهم الأمم ، فأعزهم الله بتوفيقه وآواهم من بعد يتم، إلا أن الفتنة أصابتهم في كنف السلطة فأصاب المشروع الانتكاس وضاع مقصده وتشوش سبيله واختطف عقله، فزهد في الدين وأقبل على الدنيا تخبطاً وطغياناً، فأمر الإنسان كذلك أحيانا.. (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى) ، فما كان من شأن المؤمنين اليأس والقنوط وانحطاط الأمل، وليس من شأنهم العزوف عن السعي لبلوغ المرامي، إنما هو الضرب في الفكر تدبراً وسعياً نحو إصلاح العقل وتقويم الرؤية، والضرب في الأرض سعياً نحو تجديد الطاقات وبعث الروح، والإقدام على شهادة الحق في المشهد دون مواربة أو وجل (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ)، وعلى الرغم من تشابهات الشعار المرفوع مع جماعة ضلت ، وإلتباس الأمر على عامة الناس، ووقعه الثقيل على نفوس بعض منتسبي الحركة نفسها، إلا أن الحركة اجتازته وخرجت منه منتصرة لمبادئها شاهرة إنحيازها لقيم الدين وضوابطه.
وقد تبتلى الجماعة من بعد بثقل وطأة الاستبداد عليها وإعماله لضروب القهر والتسلط والإذلال، غير آبه ولا عابئ بقيم معلومة ولا نظم مقامة ولا رقابة من مجتمع أو ضمير، مع ما قد يعتريها من وحشة عن المجتمع واتهام في أصل تدينها ونفور شركاء مأمولين عنها في العمل العام ، فشأن المؤمنين هنا التعلق بمثالات الدين صبراً ورباطة للجأش تذكرا لآيات الله (وَالْعَصْرِ * إِنَّ الإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْر)، واستئناساً بعهد النبي وصحبه الصابرين على البلاء المتمسكين بالوعد الرباني بالنصر .. (أمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللّهِ قَرِيبٌ)، وليس من شأن المؤمنين الهلع أو الجزع أو التولي عند الابتلاء، فذلك مذموم عند الله (إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً، إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً، إِلَّا الْمُصَلِّينَ) ، وليس من شأن المؤمنين حقاً الانصراف فتنة عن الدين وهديه، سعياً إلى نقيضه من الرؤى والمناهج ، إنهزاماً وتخبطاً من واقعٍ مستعصٍ طلباً لمأوى في غير كنفه أو تتبعاً لهوى (أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ)، وليس من شأنهم الحج إلى الطغيان وتقوية الباطش المنتصر وهماً أو التحيز نحو رغد العيش والتمرغ في جاه السلطان، بل الأمر الحق أن يرفع المؤمن نفسه بآيات الله وابتلاءاته فتزيده حكمةً وانضباطاً وإيماناً).
وقد وفق المؤتمر الشعبي من بعد في ولوج مرحلة من التقارب والتعاطي مع شركاء العمل العام، مستجيباً للتفاكر مع آراء طال عهد اتصاله بها، وبعدت سبل اجتماعه مع الناطقين بها، كان ذلك أوبة نحو جميع كيانات المجتمع العاملة ، مستمداً ذلك من رؤيته في أن هدي الدين لا يترسخ إلا بالتدافع وبناء قاعدة الثقة مع الآخرين (وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى العَالَمِينَ) ، فلا تأتي هدايته من علٍ ولا تأتي هدايته أمراً ولا نهياً من ذي سلطان ولا أماني ، وما فارق مؤسسوه موضع السلطان إلا بعد أن اختبروا تعثر تنزل الهداية من ذلك السبيل وحسب، ولم يقبل المؤتمر الشعبي في خطته على النخب العاملة فحسب بل سعى حثيثاً نحو مجتمعه العريض تفاهماً وتناصحاً والتحاماً، آملاً في بناء سودان عريض متماسك متعاضد ، ولكن ما كان إلا أن ضيق عليه أهل السلطان السبل وحاصروا سعيه وكبلوا طاقته وكذلك فعلوا شيئا مع شركائه بل امتدت يد البطش لعامة الناس، فارتكازاً على هدي الدين توجه إلى التوافق مع القوى السياسية سعياً نحو كلمة سواء يزيل فعلها الطغيان وآثاره ويستهل بها عهداً تُرَسَّخ فيه مشيئات الناس وتحترم فيه تعاهداتهم كافة .
فخلص تفاكره مع شركائه إلى ضرورة اتخاذ الهبة الشعبية الشاملة سبيلاً لاقتلاع الطغيان الذي سد كل السبل نحو الحوار الجاد والقول اللين ، مع الوعي الكامل بما يمكن أن يتبع هذا العمل من مخاطر حادة تصيب المجتمع في أصول اجتماعه، ولكن كان العزاء في قوله تعالى (وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ ، إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ). ولم يكن ذلك الاتفاق على هذه الهبة سعياً وراء شهوةِ سلطةٍ أو سفاهةٍ في الرأي، إنما كان لضرورات قدرت بعد هلاك للحرث والنسل عم البلاد في أرجائها، وما كان ذلك الاتفاق إلا بعد مجاهدة مع النظام استنفد فيها كل الفرص المقدمة واستعلى علوا لم يكن هناك من رادع له سوى فعل مساوٍ له في القوة والدفع.
إلا أن الله قد هيأ سبيلاً كان يرجوه المتحذرون من المخاطر الكبرى الماحقة، إذ بدرت بادرة لين في القول نادرة من أصحاب السلطة، وخرجت ألفاظ تعقل ما ألفها الناس من قبل، بل وقدمت كلمات دعوة للجنوح إلى السلم، واستعداد لطرح أزمات البلاد كلها على مائدة متكافئة مرعية ومشهودة من العالم ، فذهب الرأي مشورة نحو اختبار الواقعة، وفحص مقدار جديتها وقياس إمكان تحقيقها لذات المأمولات التي سعت لها الحركة في مصابراتها ومسيرها واتفاقاتها، فإن كانوا قد جنحوا فعلا للسلم (.. فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ)، فإن تحققت توبة وأوبة لقيم الدين وهديه، فإن الحركة من شأنها أن تدفع بتلك التوبة والأوبة إلى أقصاها، معينة أهلها لا مخذلة لهم، (فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) .
• مراحل المسير :
المؤتمر الشعبي بادئ الأمر :
إنه ومنذ تأسيس المؤتمر الشعبي سعى لتمكين مبادئه التي أعلنها جهاراً وتحقيق خططه الرامية إلى إجلاء الأزمة السياسية والاجتماعية التي عصفت بالبلاد، جراء السياسات المتخبطة والمستكبرة من فئة كبتت الحريات وضيقت المنافذ على المعارضين، فدعا المؤتمر الشعبي لحل عاجل في رد أمر السلطة الى عامة الشعب لتفويض من ينوب عنه فى شأنه العام، ولينشئ عبر إرادته المستقلة ميثاقاً للتعاقد يكون ضامناً لسير الحياة العامة مستقرة لا مضطربة، ومعياراً يتحاكم إليه الناس حين افتراق المواقف ، وقد كان من أولوياته وذروة سنام أهدافه تحقيق السلام الشامل للوطن وتأمين وحدته ومعاش أهله وعافيتهم، وإرساء دعائم الحكم الراشد ، وإشاعة الحريات العامة لسائر العاملين في الحقل العام وسائر المواطنين في حياتهم كلها، وحتى يكون ذلك المشروع ناجزاً فقد حدد خيارات، أولها الرجاء في أن يعود من حادوا عن الطريق القويم إلى رشدهم من عند أنفسهم، وذلك برد الأمانة للشعب مصدر السلطة وصاحبها حتى يقول كلمته الحرة ، فإن هم تأبوا عن ذلك وتمسكوا بالسلطة المغتصبة، وكبر عليهم إخراجهم منها فان الرجاء ألا يقعدوا بكل سراط يصدون الناس عن ممارسة حياتهم الطلقة فى العمل السياسى وألا يتعدوا على حقوق الآخرين حبساً لحركتهم أو إعاقة لانتظامهم فى أي شكل أرادوه، فسعى المؤتمر الشعبي مجتمعاً مع القوى السياسية و منفرداً إلى مضاغطة أهل السلطة حتى يرد الأمر الى المأمول من رشد الحكم، وما كان المؤتمر الشعبي ليتخير بين هذا وذاك من السبل إلا بتحري الشرعية من مبادئ ورؤى الدين والتي عليها أيضا أسس أهدافه .
المؤتمر الشعبي وأزمات البلاد العاجلة :
لم يحصر المؤتمر الشعبي طاقاته في مجرد شعارات مرفوعة أو مجرد إبداء لآراء عامة، بل توجه حثيثاً نحو أن يفصل القول ويبذل الطاقة في العمل، مشتبكاً مع الواقع متحملاً تبعات مواقفه مصادماً بالحق لصلف السلطة، فبسط آرائه وقدم فعله في أزمات البلاد العاجلة بما يتوفر لديه من طاقة ومقدرة ، وفي ما يلي إيجازاً لمواقفه في عدة قضاياً:
أولاً الجنوب :
إن المعلوم أن للحركة الإسلامية ارتباطاً خاصاً بقضية الجنوب منذ أمد بعيد، وقد حظيت القضية بمكانة واسعة في فكرها وسعيها وذلك استشعاراً لمدى المظلومية التي وقع فيها الإقليم، ومدى الأهمية التي يمثلها كمدخل لنشر الدين وإشاعة الثقافة الهادية إليه، وقد قدمت الحركة رؤىً محكمة لمعالجة القضية، وسعت لتجمع حولها طاقات القوى السياسية كلها باعتبار القضية شأناً قومياً عاجلاً، والمؤتمر الشعبي استند منذ تأسيسه على ذلك الميراث مستفيداً من الصلات التي أقامها من قبل مع الجنوب إنساناً وثقافةً، فبدأ عهده السياسي بمد حبال التواصل مع الحركة الشعبية من خلال مذكرة للتفاهم موضحاً لجملة حقائق، أولها أن الحرب فى سابق العهد لم تكن قتالاً فحسب، بل جهاداً مؤسساً على رؤى الدين المحقق لمُثلٍ عليا جامعةٍ لكلمة للإنسان، ومرسخة لسبل هدايته واستقراره ، فالجهاد في الأصل دعوة لسان قبل أن يكون مقارعة سنان، وثانيها وأن الوطن ليس حكراً لمجموعة أو فئة، وأن الحوار وسيلة يمكن بها حسم كل القضايا وصولاً لاتفاق يصل إلى القدر الكافى من المساواة والوحدة والتعايش، وقد وجدت الحركة الشعبية في طرح المؤتمر الشعبي الجد الكافي للمضي قدماً معه، وهي التي عرف قادتها قادة المؤتمر الشعبي وشباب الحركة الإسلامية في ثباتهم وتضحياتهم، إلا أن الحزب الحاكم وجد في التفاهم خطراً على احتكاره للرأي في قضية الجنوب، وتمدداً للتنظيم الناشيء، فلاقى المؤتمر الشعبي من تبعات ذلك ما لاقى، ولكنه صبر ملتزماً بعهده متمسكاً بمبادئه حتى يكون المشروع متحققاً.
وقد كان من الخطاب الداخلي المبثوث حينها في المؤتمر الشعبي كف اليد والصبر والاستعانة بالشعائر على تجاوز المحنة والفتنة، على الرغم من وجود طاقات قادرة على إعداد القوة للمصادمة و المدافعة فى وجه الظلم البيِّن، ولكن القيادة ظلت تذكر بمعانى الدين رجاء ألا تصل تجربة لإسلاميين في الحكم موضع الإضطراب البالغ وزهق الأرواح ، وقد تمادت السلطة في القمع والترهيب وحاولت وأد مخرجات الحوارات مع الحركة الشعبية، وكان لها أن تستفيد مما قدمه الشعبي من فرص، إلا أنها انتظرت بعد ذلك أعواما حتى أُرغمت على اتفاق آخر شابه التشاكس وكان له ما بعده ، وكان رجاء المؤتمر الشعبي في إتفاق نيفاشا أن يحقن دماء السودانيين ويحقق القدر الكافي من أمن المواطن في نفسه ومعاشه، على رغم من ثنائية الإتفاق وافتقاده للسند الشعبي والتوافق السياسي الجامع، كما غض المؤتمر الشعبي الطرف عن مشاركة بعض القوى السياسية في النظام على ضوء إتفاق نيفاشا على الرغم من غياب البادرات الواقعية لإمكانية التحول في سياسات النظام من الشمولية نحو إشاعة الحريات العامة على الأقل ، وما ذلك إلا أملاً منه في إمكانية أن تدفع تلك المشاركة في اتجاه خلخلة صلف النظام ، والخروج ببعض مكتسبات ينعكس أثرها على الحياة العامة خاصة وأن الجميع قد قبل بالدستور الانتقالي كضرورة ملحة، إلا أن طبيعة الإتفاق الثنائي سيطرت على كل مجريات الأحداث، وأدخلت البلاد في حالة من التشاكس الثنائي أفضت لترسيخ انعدام الثقة القائم أصلاً، الأمر الذي كانت نتيجته المتوقعة دعم خيار الانفصال، ولكن القوى السياسية المشاركة قبلت بحظوظها في السلطة على الرغم من هذه العيوب، وحتى بعد أن وقعت الواقعة بانفصال الجنوب، بث المؤتمر الشعبي الأمل في إمكان إعادة توحيد شطري البلاد على ذات المبادئ والأهداف، وما كان سعي المؤتمر الشعبي في قضية الجنوب ضرباً من الهوى أو بحثاً عن مصلحةٍ ضيقةٍ عاجة أو خداعاً لفئة مستضعفة، إنما كان سعيه إستجابة لما أملاه عليه النظر في الدين والتمسك بهديه .
ثانياً دارفور:
أزمة أخرى متجددة لها جذورها التاريخية ألقت بظلالها على مسير المؤتمر الشعبي، واجتهد فيها بثاً للأفكار وعرضاً للرؤى على الكيانات المتصارعة، وما كان للأزمة أن تتصاعد وتيرتها بهذا الشكل المؤسف لولا عسف السلطة واستكبارها على مطالب الناس واستخفافها بهم وبمقدراتهم، فقد عانى إقليم دارفور من أزمات قديمة العهد تمثلت في الصراع حول الموارد المولدة لاحتكاكات متوقعة بين القبائل المختلفة، إلا أن الأمر قد تفاقم بفعل سوء السياسات حتى بلغ ذروته في المأساة الإنسانية التي شهد عليها العالم كله، وقد كان للمؤتمر الشعبي موقف مجاهر في القضية واجتهاد مثابر في حلها، وتحذير متواصل لأهل السلطة من مغبة إعمال آلة الحرب لحسم متوهم للقضية، وقد دفع المؤتمر الشعبي قيادةً وشباباً الثمن جراء هذه المواقف أرواح صاعدة، وسجون متواصلة، وكبتٍ لحرية التعبير وحظرٍ للنشاط السياسي. وما زالت الأزمة تستعر من بعد ذلك وتتفاقم يوما بعد يوم، في الوقت الذي تهيأت قرارات المؤتمر الشعبي لإبداء الرأى باكراً متى ما طلبت المشورة، وقد كان له قرار سابق بعدم الدخول في حوار مع النظام ، استثني فيما استثني منه الحوار حول أزمة دارفور، مع إسقاط الشروط التي سبق ووضعها الشعبي في ضرورة فك الحصار عن الدور وإطلاق الصحيفة والحرية للمعتقلين، وبدأت المحاورات منذ مؤتمر الفاشر مرورا بلقاء الرئيس فى القصر والمناصحة الأشهر الداعية للنظر في لب المشكلة ووقف حملات التشهير والتخوين والتعاطي مع المشكلة في أصلها، استدراكاً لما قد يحدث من جراء الفعل المقابل والخوف على واقع المجتمع ونسيجه الاجتماعي، حينما يتحول الإقليم إلى مسرح دائم للعمليات العسكرية .
كانت المشاركة في مثل هذه اللقاءات واجب ديني، في أن يُسمع المؤتمر الشعبي صوته وأن يقول كلمته بأنه مع مطالب أهل دارفور العادلة في حقهم في السلطة والثروة والأمن والعيش الكريم ولكنه يختلف مع بعضهم في وسيلة التعبير، ولكنه يجد المعذرة لهم في واقع مرير فرضته آلة الحرب الباطشة التي لا تبقي ولا تذر، وما كانت الرؤية المطروحة لأزمة دارفور جانحة نحو التحييز لفئة من مكونات الصراع الاجتماعي، ولا كانت متحيزة لثقل عددي أو متطلعة لقواعد شعبية يتصارع عليها، بل أن الرؤية نبعت من ذات منبع الهدي الديني الذي استقى منه المؤتمر الشعبي رؤاه ومبادئه واستشعر منه مسؤوليته.
ثالثاً : جنوب كردفان والنيل الأزرق وأبيي:
كانت هذه أزمة إضيفت لأزمات السودان المتمثلة في تنازع أطرافه مع مركزه، فقد تفجرت الأزمة في جنوب كردفان نتيجة لعدة أسباب، منها ضبابية بنود نيفاشا الخاصة بتسوية المشكل في الولاية مع الجنوب، وعدم توفر الحكمة الكافية في الأطراف المتنازعة لنزع فتيل الأزمة، إضافة لسوء إدارة التنوع الثقافي والاثني في الولاية، الأمر الذي تكرر في ولاية النيل الأزرق، إذ تحولت الأوضاع بعد الانتخابات من استقرار نسبي إلى اقتتال داخلي وانهيار للنظام السياسي، وقد ظل المؤتمر الشعبي يقدم الرؤى لحل هذه الأزمات، إلا أن النظام قد ظل ينفرد بسياساته الأمنية الأمر الذي أدى لانفجار الأوضاع بشكل كبير في الولايتين، أما قضية أبيي السابقة لتأزم الأوضاع العامة فقد دفع فيها المؤتمر الشعبي برؤى تفصيلية، حيث صرح بأن قضية الحدود داخل القطر الواحد يجب ألا تكون حاجزاً يمنع التواصل بين السكان، ولا أن يؤثر على ما تعارفت عليه الجماعات فيما بينها من أحلاف وأعراف ونظم إدارية أهلية في إطار إدارة الموارد الطبيعية والاستفادة منها، وأنه من الأنسب أن تراجع أطراف إتفاقية نيفاشا ما ورد بشأن حسم نزاع منطقة أبيي، وإعطاء التفويض الكامل لمواطني المنطقة المعنيين (مسيرية ونوك) في إطار نظمهم الأهلية وأحلافهم التاريخية، للتحاور والخروج برؤية موحّدة يلتزمون بها وتكون ملزمة لطرفي الاتفاقية، وأن يفسح المجال لكل القوى السياسية السودانية ومنظمات المجتمع الأهلي للتعاطي الإيجابي مع هذه القضية ، وذلك بتشجيع التصالحات وإحياء الأحلاف بين سكان المنطقة بما يخدم الاستقرار والتعايش السلمي، وأن تُعطى هذه المنطقة تمييزاً إيجابياً في مجالات تشجيع الاستثمار والتجارة والتنمية الشاملة من خلال صندوق تُرصد له موارد إضافية، إلا أن هذه الرؤية لم تجد أذناً صاغية في خضم النزاع الذي أصبح دامياً، حتى صار المجتمع مقسماً لفئات متقاتلة ومتخاصمة، وكان يرى المؤتمر الشعبي أنه لو تنزلت في الإقليم مبادئ التسامح والوحدة على الرؤية الدينية الموحدة للمجموع البشري والحافظة لخصوصياته، ما كان للأحداث أن تبلغ ما بلغت ، وقد قدم المؤتمر الشعبي هذه الرؤى بتجرد بالغ رغم تعقيدات القضية وحساسيتها .
رابعاً: شرق السودان:
لقد ظل شرق السودان يعاني لسنوات طويلة من التهميش السياسي والتنموي، مما أدى لظهور العمل المسلح المناوئ للنظام، وقد قدم المؤتمر الشعبي رؤيته لحل هذه الأزمة في ورقة مفصلة كان فيها ضرورة السعي الجاد لإنزال اتفاقية الشرق ببنودها كافة دون مناورة أو بطء، ورفع الضرر ورد المظالم وإزالة مظاهر تفشي الفساد والتطفيف والغرر في المعاملات، مما يحقق التسوية العادلة الدائمة، وعلى الرغم من توقف العمل المسلح ودخول الإقليم في سلام عام إلا أن الحالة الاقتصادية والاجتماعية ما زالت متردية، بل إن هناك بوادر لتفجر الأزمة من جديد نسأل الله تعالى أن تخبت.