تقارير

«عبد الوهاب عثمان» .. رحيل صنديد الاقتصاد .. كاتم أنفاس الدولار وحكيم (أيام الـخير)!!

لم يكن الراحل الدكتور “عبد الوهاب عثمان” – الذي فجعت البلاد أمس برحيله – شخصية عادية، فقد كانت خبيراً اقتصادياً لا يشق له غبار.. عرفته أروقة وزارة المالية بقراراته القوية.. وقبل فترة طالب الأستاذ “الهندي عز الدين” وزير المالية السابق “علي محمود” ومحافظ البنك المركزي، بأن يتواضعا ويذهبا ليسألا وزير المالية الأسبق “عبد الوهاب عثمان”: ماذا فعل ليحافظ على سعر صرف الدولار أربعة سنين متتالية بدون عائدات نفط أو ذهب أو مليارات من قطر والصين وليبيا؟! ليبقَ السؤال: هل ذهب هؤلاء إلى الوزير الأسبق ليسألوه قبل أن يغيبه الموت يوم أمس (السبت)، ويودع الفانية والحال كما الحال!!
الراحل “عبد الوهاب عثمان” ووري الثرى مساء أمس بمقابر شمبات ببحري، بعد مسيرة عطاء حافلة في حقل الاقتصاد، امتدت لأكثر من نصف قرن.. تدرج خلالها في السلم الوظيفي بوزارة المالية والاقتصاد الوطني منذ تخرجه في جامعة الخرطوم، إلى أن وصل إلى درجة وكيل الوزارة.. ثم الوزير.. وعرف عنه صرامته في الشأن العام، وكان لا يخشى في الحق لومة لائم.. ومن مقولاته المشهورة: (على الدولة أن تستفيد من قروش البترول في تنمية وتطوير الزراعة والثروة الحيوانية والصناعة، فهي تمثل الثروة الحقيقية لأن البترول ثروة ناضبة).. ونال الراحل درجة الدكتوراة من جمهورية “تشيكوسلفاكيا”.
ويعد “عبد الوهاب عثمان” أحد أشهر وأقدر وزراء المالية الذين تقلدوا هذا المنصب منذ الاستقلال، وتميز باعتداد جميل بالنفس.. وقد قدم استقالته ثلاث مرات من وزارة المالية.. فأعيد بالإلحاح.. ومن مواقفه المشهورة أنه غادر إحدى جلسات البرلمان غاضباً عندما حاول النواب الضغط عليه لتعديل بعض السياسات الاقتصادية، ومقاومة بعض سياساته.. إذ ترك “عبد الوهاب” مفتاح سيارته وذهب إلى بيته، مما يشير إلى أن الراحل كان شديد الصرامة في ما يتعلق بالمسؤولية العامة.
وتصنف فترة ولايتة الراحل على وزارة المالية بأنها من الفترات التي شهد فيها الاقتصاد السوداني استقراراً كبيراً، و قد سميت (أيام الخير)، فيما لقبه البعض بـ (كاتم أنفاس الدولار).
ويقول عنه الكاتب الصحفي دكتور “خالد التجاني النور”: الراحل كان يتخذ قرارات لا ترضى عنها السلطة الحاكمة، وقد وقف بصلابة أمام الإعفاءات التي كانت تتم للخبرات.. وقد استطاع أن يحجم التضخم الذي كان قد وصل حينها إلى (260%) وحقق استقراراً في تلك الفترة التي لم توجد فيها عائدات نفطية.. كما كانت فترة ولايته من العام 1996 حتى 2000 تعتبر من أنجح الفترات التي شهدها الاقتصاد السوداني والمالية خاصة.. بفضل وضوح رؤيته ومعرفته.. والاقتصادي الكبير د.”عبد الوهاب عثمان” كان ترتيبه رقم (27) من بين الذين تعاقبوا على الوزارة.. وكان يمثل صوت الحكمة الاقتصادية في الحكومة والمؤتمر الوطني.
وعن الراحل قال محافظ بنك السودان المركزي السابق د. “محمد خير الزبير”: (“عبد الوهاب عثمان” أصلاً من الموظفين بوزارة المالية من بدري.. قبل أن يصبح وزيراً، وكان يعرفني وأعرفه جيداً.. وسبق أن تولى منصب وزير المالية بالإقليم الشمالي إبان فترة حكم مايو.. وعملت معه في البرنامج الذي أدى إلى الاستقرار الاقتصادي).
وعن سر ما فعله “عبد الوهاب” حتى يجعل الاقتصاد مستقراً قال دكتور “محمد خير الزبير” في افادة سابقة لـ (المجهر): (السبب في ذلك كان سياسات التحرير الاقتصادي التي أقرتها الدولة عام 1992م وبموجبها تحرك الجمود الاقتصادي، وأحدثت طفرة كبيرة في السلع وتم تحرير سعر الصرف.. لكن تلك السياسة زادت من غلاء الأسعار بعد تدهور سعر الصرف).
ويضيف محافظ البنك المركزي الأسبق: (“عبد الوهاب عثمان” بخبرته وممارسته في المجال الاقتصادي ومؤهلاته الأكاديمية، استطاع أن يعرف مكمن المشكلة المتمثلة في التضخم وسعر الصرف، لذلك استطاع تنفيذ برنامج يحتوي المشكلتين، وهذا أدى إلى تحرك الاقتصاد وساعد في استقرار سعر الصرف.. كما حقق انضباطاً مالياً شديداً في وزارة المالية، وفي الصرف الحكومي وفي سعر الصرف، وهذا ما جعل الاقتصاد السوداني (يستعدل) خلال الاربعة سنوات التي ظل فيها وزيراً للمالية).
ويقول “خالد التجاني”، الذي تربطه علاقة وثيقة بالراحل: “عبد الوهاب” يعتبر واحداً من أفذاذ الاقتصاد السوداني الذين عرفوا بالكفاءة والمهنية والاستقامة على الحق وحسن التدبير.. وكان يقوم بعمله دون مجاملات.. وظل على الدوام يدفع ثمن ذلك بالمضايقات التي يتعرض لها.. وقد عكف الراحل طوال فترة حياته على الإنتاج الفكري، خاصة في فترته الأخيرة، وأصدر عدداً من الكتب المتعلقة بالاقتصاد آخرها كتابه: (منهجية الإصلاح الاقتصادي في السودان).. وللراحل عدد من المؤلفات الاقتصادية.. منها تتبعه لمسيرة الاقتصاد السوداني في الفترة من (1970) حتى (2011).. والدكتور “عبد الوهاب” شخصية اقتصادية معروفة، نشأ وترعرع عقله الإقتصادي وسط أضابير وملفات الإدارة والمال والاقتصاد بين وزارة المالية في الخرطوم وسفارة السودان في لندن، ولذلك فإن رؤيته للاقتصاد الأفريقي عامة والسوداني خاصة، رؤية صانع قرار ورؤية من الداخل.. وكذلك فإن متابعة الراحل للحركة العلمية والسياسية المتعلقة بالمال والاقتصاد، جعلته من العقول العلمية، كما أن مشاركاته في المؤتمرات السياسية والاقتصادية وعلاقاته برجال المال والأعمال، مكنته من هذا المجال فأصبح بذلك صاحب خبرة عريقة وثقافة واسعة.. ولم تقتصر اهتمامات الراحل بالسودان فقط بل امتدت إلى الخارج، حيث أصدر دراسته (التخلف الاقتصادي في أفريقيا).

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية