قصة مبادرة ماتت وشيعها ربانها (1)
حزم «ثامبو أمبيكي» حقائبه وغادر لبلاده جنوب أفريقيا في صباح (الأحد) بعد لقاء قصير بالبروفسور «إبراهيم غندور» رئيس الوفد الحكومي الذي عاد هو الآخر في ذات المساء للخرطوم.. بعد أن حضر لأديس أبابا متأخراً وغادرها مبكراً.. وتشظى وفد الحركة الشعبية ما بين متوجهين صوب جوبا وكمبالا والقاهرة.. ورجع الصحافيون بالذكريات والأوراق وقصة انهيار مفاوضات لم تبدأ أصلاً. ووئد حلم ملايين في السلام! وفرحت أقلية بمقدمات حرب تلوح بوارقها في الأفق بعد انسداد شرايين التواصل بين الفرقاء السودانيين .. غادر «أمبيكي» الوسيط الأفريقي والحسرة في نفسه لإهدار وقت وجهد، وتبدد حلمه بتحقيق مجد شخصي له بالإسهام في (علاج) أمراض بلد انقسم لوطنين ولم تشف كلتا الدولتين من مرض سكن مفاصل السودان القديم، وحينما استعصت على الأطباء وصفة علاجية له مضى ثلثه لسبيله كدولة مستقلة وفشل «أمبيكي» والاتحاد الأفريقي في إيجاد وصفة علاجية له.
ما قبل المفاوضات!
لم تبدل الحكومة رئاسة وفدها المفاوض من بروفسور «غندور» إلى د.»عمر سليمان آدم» الوالي الأسبق لجنوب كردفان كما لم تدفع بالبروفسور «غندور» لقيادة فريق التفاوض الذي وصل لأثيوبيا يوم (الخميس) الماضي .. فطبيب الأسنان الذي أسندت إليه مهمة لسان الحزب والدولة لينوب عن الرئيس في الحزب ويساعده في القصر.. كان بعيداً عن المفاوضات في يومها الأول والثاني والأخير! وأسندت للدكتور «عمر سليمان» رئاسة الوفد دون تفويض مكتوب من الرئيس «عمر البشير» إلى الوسيط «أمبيكي» أو قرار جمهوري يسند به الرجل موقعه كرئيس للوفد! واعتبرت الحركة الشعبية غياب البروفسور «غندور» ينهض دليلاً دامغاً على تنصل الحكومة عن المضي قدماً في التسوية وأنها على طريقة تخلي د. «نافع علي نافع» عن الملف وإسناد التفاوض إلى د.«كمال عبيد» بعد رفض الاتفاق الإطاري (نافع ـ عقار) مضت الحكومة على الدرب ذاته واستبدلت «غندور» بـ»سليمان» ولم تشأ إخطار «أمبيكي» عند زيارته الأخيرة ولا حتى إبلاغها هي كطرف.. وعقد الوفد المفاوض للحركة الشعبية اجتماعاً بفندق (رديسون) حتى تتعامل الحركة مع التطور الجديد وقاد كل من «مبارك عبد الرحمن أردول» عضو وفد التفاوض من الحركة و»بثنية دينار» ود. «أحمد عبد الرحمن سعيد» اتجاهاً في الاجتماع الذي حصلت (المجهر) على تفاصيله بإسناد رئاسة الوفد من جهة الحركة للسيدة «ازدهار جمعة» لتقود وفد التفاوض في مواجهة «عمر سليمان» إلا أن الجنرال «جقود مكوار» رئيس أركان الجيش الشعبي رفض الفكرة وسانده «ياسر عرمان» الذي قال في حديث خاص لـ(المجهر) حول هذه القضية: (لم نشأ استفزاز «عمر سليمان» أو التقليل من قدره فهو عندنا رجل محترم جداً، وقد قبلنا برئاسته لوفد الحكومة وقلنا من يختاره المؤتمر الوطني نحن تفاوضه ولو كان (..)- حذفنا الاسم لأن الرجل نأى بنفسه عن المعترك السياسي منذ فترة ليست بالقصيرة!
في معسكر الوفد الحكومي بدأت الاجتماعات الصامتة في الغرف المغلقة للتحضير لجلسات التفاوض وإعداد أوراق المفاوضات والرد على ما قدمته الوساطة من تلخيص لرؤيتها حول القضايا التفاوضية وتمسك الوفد الحكومي بثلاثة مواقف لا تبديل ولا حياد عنها أولاً الدخول في التفاوض حول المنطقتين فقط من حيث الترتيبات الأمنية والإنسانية والسياسية ورفض الحديث حتى عن إشراك الحركة الشعبية في الحكومة المركزية وتمثيلها في أية ولاية خارج النيل الأزرق وجنوب كردفان وتنفيذ الاتفاقية الثلاثية التي وقعتها الحكومة والحركة الشعبية والأمم المتحدة والجامعة العربية بشأن إيصال المساعدات الإنسانية ولا عودة لاتفاق سويسرا لوقف إطلاق النار الذي وقع عام 2003م والمطالبة بوقف إطلاق نار شامل لتهيئة المناخ للوصول لاتفاقيات شاملة.
رجال خلف مسرح الأحداث..
ما كانت مفاوضات أديس أبابا التي انتهت بالفشل وجهاً واحداً فقط!! هناك ما وراء المفاوضات في السر والعلن بعد أن أصبحت أديس أبابا سوقاً ومتجراً يتبضع منها رجالات المخابرات والسياسيون ويتخذ الدبلوماسيون الغربيون أماكنهم من المقاعد الوثيرة لمقاهي الفندق حيث توفر المقاهي ما يغذي البطون والعقول من فاخر الطعام وحلال الشراب وحرامه..
ويطوف رئيس وفد الحركة الشعبية مع السفراء المقيمين في أديس والمبعوثين الذين يجالسونه حتى أوقات متأخرة من الليل الصاخب في العاصمة التي تغني وترقص وينثر شعبها الأفراح في المقاهي والشوارع والموسيقى والألحان تنبعث من الحانات والمتاجر!! جاء «مبارك الفاضل المهدي» القيادي في حزب الأمة سابقاً واختار عقد اجتماعات علنية مع وفد الحركة الشعبية ومؤازرتهم في أطروحاتهم وحينما سألته شخصياً عن دوره خارج قاعات التفاوض قال «مبارك الفاضل»: (جئت هنا بصفتي سياسياً مهموماً بقضايا وطني وكان الأحرى بكل القادة السياسيين في الحكومة والمعارضة متابعة المفاوضات المصيرية التي تجري وتعددت لقاءاتي بوفد الحركة الشعبية لمعرفة موقفهم من القضايا القومية).. سألته لماذا يا سيد «مبارك» لا تلتقي الوفد الحكومي وكنت بالأمس جزءاً من هؤلاء القيادات وقد يجمعكم غداً المؤتمر الذي دعا إليه الرئيس ثم إنك وزير سابق لداخلية السودان عام 1986م ولك خبرات سياسية لماذا لا تسدي حتى النصيحة للمؤتمر الوطني مثلما فعلت مع الحركة الشعبية؟؟ بدا «مبارك» صامتاً برهة من الوقت، وقال: (أخي «يوسف» أنا مستعد للقاء وفد الحكومة ولكني لا أعرف منهم أحداً غيرك)، قلت له أنا لست عضواً في وفد الحكومة، فقال ضاحكاً (نحن نعلم عنكم وعن تاريخكم ولكن لا مشكلة مع أحد.. أرجوك أن تبلغ الوفد الحكومي برغبتي في لقائهم يوم غد. وللأمانة والتاريخ في اليوم الثاني جاء «مبارك الفاضل» في الصباح الباكر، وسأل الأخ الصديق الأستاذ «محمد عبد القادر» عني وحينها علم بالوعكة الصحية التي لازمتني في أديس بسبب قلة الأوكسجين وارتفاع ضغط الدم. وأبلغني الأخ «محمد عبد القادر» بسؤال «مبارك» عني لترتيب اللقاء مع الوفد الحكومي.. وبعد وصول البروفسور «غندور» غادر «مبارك الفاضل» إثيوبيا نحو القاهرة!! ومن السفراء العرب الذين كانوا على مقربة من التفاوض المصريون والكويتيون والإماراتيون والجزائريون وهؤلاء جميعاً كانوا يلتقون بوفد الحركة الشعبية جهراً وسراً بينما الوفد الحكومي لا يطل أعضاؤه كثيراً على المقاهي التي انتشر فيها قادة الحركة الشعبية.. ويوم (الجمعة) عقد اجتماع ثلاثي في (فندق قيون) وهو فندق تاريخي وأثري في أديس أبابا كان الراحل الشريف «حسين الهندي» يتخذه منزلاً له أيام المعارضة لجعفر نميري.. في هذا الفندق التقى «مبارك الفاضل» و»ياسر عرمان» و»مالك عقار» الذي يراقب المفاوضات عن قرب ولكن قلبه مع مفاوضات الفرقاء الجنوبيين أكثر من مفاوضات المنطقتين ربما لمعرفته سلفاً بأنها مفاوضات لطريق مسدود كما قال السيد «أمبيكي».
دموع «أمبيكي»..
حينما خطب «ثامبو أمبيكي» في الوفدين قبل إعلان رفع جلسات التفاوض وبلوغ المفاوضات الحائط المسدود تذكرت قصيدة مهملة في كراساتي الخاصة للشاعر والأديب الدبلوماسي السعودي «غازي عبد الرحمن القصيبي» سفير المملكة العربية السعودية في بريطانيا لسنوات حينما كتب قصيدة تمجد فتاة فلسطينية تدعى «آيات الأخرس».. حينما أقدمت على الاستشهاد وهي لم تبلغ الثمانية عشر ربيعاً بعد في مخيم «الدهيشة» بالقرب من بيت لحم، فكتب عنها السفير «القصيبي» يمجد بطولتها. فأثارت قصيدته اللوبي اليهودي والغربي فطلب من الرياض تبديل وإنهاء خدماته في الدبلوماسية السعودية.. فهل خطبة «أمبيكي» الأخيرة تمثل الورقة التي يحترق بها وتكلفه مهامه التي وضعت على عاتقه من قبل الاتحاد الأفريقي، ولكن ماذا قال «القصيبي» قبل أن نكتب عن كلمات على لسان «أمبيكي»، قال «القصيبي» في الفتاة الفلسطينية:
لقد عجزنا حتى شكا العجزُُ منا
وبكينا حتى ازدرانا البكاءُُ
وركعنا حتى اشمأزََّ الركوعُُ
ورجونا حتى استغاث الرجاءُُ
وشكونا إلى طواغيت بيت أبيض
ملء قلبه الظلماءُُ..
قال «أمبيكي» وقد جلس وفدا التفاوض متقابلين على أرائك وثيرة بملابس غالبها سوداء معطرة بأريج باريس وأحذية تلمع كبرق الليل في عتمة جبال أم سردبة وأبصار بعضها منكب على الورق وآخر ينظر لفوهات عدسات مصوري القنوات ويسأل هل ستشاهده زوجته في المساء.. والرجل السبعيني «أمبيكي» يقول: (الآن وصلت المبادرة التي نقودها للطريق المسدود وفشلنا في تحقيق السلام في السودان وأهدرنا ثلاث سنوات في التفاوض والترحال وتقديم المبادرات ولم نصل لأية نتيجة.. وحينما تركتكم أمس تجتمعون لوحدكم دون وسطاء انتابني فرح كاذب وذهبت للرئيس الإثيوبي وقلت لقد اقترب السودانيون من النجاح والآن يجتمعون لوحدهم وهم مؤهلون لاتخاذ القرار الصحيح ويشعرون بكل آلام شعبهم وأحزانه وما يحدث على الأرض.. ولكن بكل أسف حينما عدت وجدتكم مختلفين في كل شيء ولم تتفقوا على أي شيء.. نحن لا نملك في خزائننا حلولاً نهديها إليكم .. ولا نقدم لكم وصفات لعلاج مشاكلكم!!
الآن نرفع جلسات المبادرة بعد أن وصلنا إلى طريق مسدود تماماً وفشلنا في تحقيق السلام، هناك جهات هي التي أسندت إلينا مهمة الوساطة ممثلة في مجلس الأمن والسلم الأفريقي ومجلس الأمن الدولي.. ستحال إليهم القضية للنظر فيها إما بترككم تتقاتلون أو اتخاذ قرار بشأن ما يجري في السودان من حرب آن للمجتمع الدولي أن يتحرك نحوها).. صمتت القاعة والجميع ينظرون إلى «أمبيكي» يتحدث بنبرة حزن عميقة كأنه يقرأ ما وراء الأحداث.. وطبق الصمت الرهيب على القاعة الدولية في الطابق التاسع من فندق (رديسون بلو). وقال «أمبيكي» خطبة الوداع وخرج دون مصافحة رئيسي وفدي التفاوض «عمر سليمان» و»ياسر عرمان» ولكنه التقى صباح اليوم التالي البروفسور «إبراهيم غندور» الذي وصل أديس قبل ساعات من مغادرة «أمبيكي» لجنوب أفريقيا ولكن بدت علامات الرضا والارتياح على محيا ووجه البروفسور «غندور» ورفض الإفصاح عن ما جرى بينه ورئيس جنوب أفريقيا السابق والرجل الذي قاد مبادرة انتهت للفشل.
ماذا تنتظر الحركة الشعبية؟
من واقع حسابات الأرض فإن المراقبين للتفاوض كانوا يتوقعون أن تأتي الحركة الشعبية لمفاوضات أديس أبابا وهي أكثر واقعية من ذي قبل!! فعمليات قوات الدعم السريع في الجبال الغربية لجنوب كردفان قد حققت نتائج كبيرة.. بوصولها إلى معاقل التمرد والاستيلاء عليها في كل من الفراقل وكجورية وتيمين وسلارا والنتل وكيقا الخيل وصولاً حتى طروجي.. صحيح أن قوات الدعم السريع خرجت من تلك المناطق وعادت إليها مرة أخرى قوات التمرد.. إلا أنها بلغة العسكريين قد (قدت عين الشيطان) وكسرت شوكة التمرد وهي تطارد العدل والمساواة كهدف إستراتيجي لتلك القوات.. وعلى الجبهة الشرقية فإن عمليات القوات المسلحة في الصيف الساخن قد حققت نتائج مذهلة وفقد التمرد (70%) من قوته في جبال أبو الحسن وتومي وأم بركة والدليباية وخور الدليب وأبو كرشولا وأم برمبيطة.. ووهنت قوات التمرد وضعفت ولم يتبق إلا المحور الأكبر والأهم جنوب شرق كادقلي حيث تسيطر الحركة على كل سلسلة جبال المورو والعطورو وهيبان وكاودا وأم سردبة والرقفي وأم دولو وكركراية البيرة وايري .. وهي المعاقل التي يتحصن فيها الآن «عبد العزيز الحلو» ولكن الحركة الشعبية قطاع الشمال تنظر لشيء ما وتنتظر حدثاً ما يجعلها رغم ظروفها السيئة في الميدان وهي تنظر كذلك إلى حليفها الجنوبي يهوي وتتساقط مدته في عمليات (كر وفر) بين الحكومة والمتمردين وهي ترفض تقديم أي تنازلات بل في كل جولة مفاوضات نضع متاريس عميقة لإجهاض الحوار لماذا هذا التشدد ولماذا غاب المبعوث الأمريكي عن جولة المفاوضات الأخيرة وهل تخطط أمريكا من خلال مجلس الآمن لاتخاذ قرار ما.. هذا ما نسعى للإجابة عليه في الحلقة القادمة.