رأي

حديث لا بدّ منه (4)

} أسلفنا في حديثنا أن الحوار كان صريحاً وقوياً مع وفد مجلس الشعب القومي، وتمخض اللقاء والحوار، أو قل خلاصته، عن المطالبة بحل النقابة بصورة عاجلة وفورية وإصدار قرار بتكوين لجنة تمهيدية تسير أمر النقابة والإعداد لانتخابات عامة، ثم كتابة مذكرة لتحمل للجهات العليا تتعلق بانعدام السلع الضرورية واختفائها من الأسواق، حيث لا يوجد منها شيء إلا بجهتين، إما السوق الأسود وإما التموين، وهو شيء شحيح جداً، كذلك تتلاحق أزمة الخبز والسكر والكهرباء بالإضافة إلى ارتفاع الأسعار، وانتشرت السوق السوداء، وهو البيع وراء الكواليس بصورة خفية، وأصبحت سوقاً رائجة ولها سماسرة وأهل خبرة، والمعلوم أن السكر والدقيق والخبز كل ذلك داخل التموين، ولا يصرف إلا عبر البطاقة التموينية بعدد محدود، وحسب أفراد الأسرة، وقد تصرف لك سبعة أرغفة ونصف مثلاً أو أرطال من السكر في حدود ثلاثة أو خمسة، حسب عدد الأسرة، وهذا يخفف على الذين يحملون بطاقة تموينية، أما الذي لا يحملها فليس له سبيل سوى السوق السوداء!!
} فرغنا من إعداد تقريرنا وقد اشتمل على النقاط الثلاث المذكورة بعاليه، وسلم ذلك التقرير للإخوة أعضاء مجلس الشعب القومي ليسلم بصورة رسمية للأخ المشرف السياسي للمديرية الشمالية – وكان وقتها الأستاذ “بدر الدين سليمان” – وقلنا إن المديرية كانت تمثل وقتها ولايتي نهر النيل والشمالية. والسكة الحديد ليس شأنها ينحصر في المديرية الشمالية، فهي هيئة قومية ونقابتها مركزية، غير أن كثافة العمال بعطبرة، فكانت هذه المظلة مظلة المشرف السياسي للمديرية الشمالية. ولأن الأحداث أو المظاهرات كانت بمدينة عطبرة إذن يكون هذا التفاوض مع المشرف السياسي أو مع مناديب المشرف السياسي للمديرية الشمالية، وهو بلا شك يرفع ذلك للمستوى القومي، أي القيادة في الخرطوم.
} وكنا نرقب التجاوب مع التقرير الذي حمله أعضاء مجلس الشعب من مساء يوم (الثلاثاء) الموافق 4/أبريل/1978 وكنا نتوقع إصدار قرار بحل النقابة على مستوى وزير النقل أو وزير الخدمة والإصلاح الإداري أو قرار من رئيس الجمهورية من أجل الاستجابة لهذه النقاط الثلاث التي حملها أعضاء مجلس الشعب، ولكننا فوجئنا في يوم (الخميس) بعد العاشرة صباحاً بأن الأخ وزير النقل الأستاذ “عبد الرحمن عبد الله” (طيب الله ثراه) – وقلنا أنه كان من التكنوقراط وكان من التهذيب والاحترام في مستوى رفيع – قد وصل إلى عطبرة، وسوف يخاطب العمال عند الساعة الثانية عشرة ظهراً، وبالفعل أعد مكان اللقاء بمكبرات الصوت والمنصة للمخاطبة، وكان ذلك في يوم (الخميس) الموافق 6/أبريل/1978 وكان ذلك بالقرب من مدرسة الإدارة بعطبرة، وخرج العمال من موقع العمل، وكنا في مقدمتهم من أجل الاستماع لخطاب وزير النقل، وكنا نتوقع أن يكون هنالك شيء جديد أو أمر جد على الساحة.
} وتحدث الأخ الوزير حديثاً عاماً عن الأداء والمسؤوليات، ثم تعالت الهتافات من العمال مقاطعة لحديثه تطالبه بإصدار قرار بحل النقابة العامة لعمال السكة الحديد والنقل النهري والمرطبات: (الحل اليوم وليس غداً). وقال الوزير في حديثه إن النقابة لا تحل بهذه الطريقة، وإن المادة (13) من قانون النقابات تقول إن ذلك من حق المؤتمر العام وليس لأي جهة أخرى أن تفعل ذلك، ويمكن أن يتم بالطرق القانونية.
} ولكن، لما وصلت إليه النقابة من عزلة وتجاهل تام لقضايا العمال، أصر العمال على أن يتخذ الوزير قراراً بالحل الفوري للنقابة، وما زال الوزير عند موقفه، ثم انفض العمال من أمام الوزير وعادوا إلى مواقع العمل، وكان ذلك عند قرب نهاية العمل، ويوم (السبت) الموافق 8/أبريل/1978 عند الساعة السادسة والنصف صباحاً اجتمع مناديب العمال داخل الورش في مكان يسمى (التروناطة) داخل حوش الصيانة، وهو مكان مغلق عقدنا فيه اجتماعاً لمناقشة الأمر، وأخذ المناديب في تدبير الأمور الكفيلة بحفظ حقوق العمال في احتجاجهم لحل النقابة وقضاياهم العادلة الأخرى، وبعد نقاش مستفيض فكروا في أن يجعلوا قيادة لهذه اللجنة، وأن يكون لها رئيس في هذه المرحلة الحرجة، وأجمعوا على أن أتولى رئاسة هذه المجموعة التي سميت (لجنة المتابعة)، فأصبحت رئيساً لها في هذه الظروف الحرجة الحساسة، ثم تداولنا الأمر فقلنا: إذا أعلنا إضراباً عن العمل قد يضر هذا بقضيتنا لأن معركتنا في الوقت الحاضر هي النقابة وليس غيرها. وحفاظاً على وحدة العمال فكرنا في طريقة أخرى قد تكون هي الأنسب والأمثل ألا وهي الاعتصام داخل مواقع العمل، ولم يحدث قبل ذلك بالسكة الحديد، ثم حملنا كل مندوب مسؤوليته بأن يبلغ عضويته بهذا الاعتصام الذي يبدأ من اليوم – وكان (السبت) – ويستمر إلى أن تحسم القضية.
} واستمر الاعتصام يومي (السبت) و(الأحد)، وكانت اجتماعاتنا تترى في المساء خارج مدينة عطبرة، وكنا نذهب إلى مكان يسمى (الواور)، وهو شرق عطبرة ويبعد نحو سبعة كيلومترات من المدينة.. ذهبنا إلى هذا المكان بدراجاتنا وكنا وقتها في قوة الشباب والحيوية ولم نشعر بإرهاق ولا تعب، وعقدنا اجتماعات في ذلك المكان الفسيح لإحكام القضية ومتابعة مستجداتها. وفي وقت سابق – مساء (الخميس) – كان قد ذهب وفد من نقابة عمال السكة الحديد من القيادة السابقة إلى الخرطوم، والتقى بقيادات نافذة بالاتحاد الاشتراكي، ووصف هذا التحرك بأنه تحرك حزبي من الإخوان المسلمين وبقايا الأحزاب الأخرى، وأن المنظم لذلك الجبهة الوطنية، وأن الذين يقودون التحرك كلهم أصحاب عداء للثورة – يقصدون بذلك نظام مايو – ثم قالوا إن ملفاتهم موجودة لدى الشرطة والأمن ولابد من حسمهم وحسم الموقف بأعجل صورة، فما الذي حدث بعد ذلك؟
} هذا ما سنقف عليه في العمود القادم إن شاء الله.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية