من أجهض مفاوضات أديس.. «عرمان» أم «مناوي»؟!
{ بعد ستة أيام من اليوم سيعود المفاوضون من الحكومة والحركة الشعبية قطاع الشمال إلى أديس أبابا للبحث عن ثغرة في الجدار المسدود، والتوصل إلى تفاهمات حول العملية السلمية المتعثرة منذ عامين، وذلك بعد فشل مفاوضات الجولة الماضية في إحداث أي تقارب في المواقف.. ما المطلوب القيام به خلال الستة أيام المتبقية ليعود وفد البروفيسور «إبراهيم غندور» إلى أثيوبيا بحثاً عن السلام المفقود؟؟ وقبل الإجابة عن هذا السؤال يجدر بنا الإشارة هنا إلى أهم الأسباب التي أدت إلى إجهاض المفاوضات التي وصلت إلى طريق مسدود مساء (الثلاثاء الماضي)، وكيف يمكن التغلب على أسباب الفشل من أجل تحقيق النجاح!!
أول أسباب فشل الجولة الماضية، المناخ الإقليمي والمناخ داخل السودان!! فالأول، أي المناخ الإقليمي، تكتنفه سحائب الحرب في دولة جنوب السودان، حيث يصطرع الفرقاء حول السلطة، وتعدّ الحركة الشعبية قطاع الشمال مولوداً شرعياً لدولة الجنوب خرج من رحمها وتغذى على ثديها.. وتحظى الحركة الشعبية قطاع الشمال بأبوية من قبل تيار (أولاد قرنق) في الجنوب، وهو التيار الذي تمرد على مشروعية «سلفاكير»، وظل «تعبان دينق» و»رياك مشار» (يرعيان) الحركة الشعبية قطاع الشمال ويغدقان عليها العطايا والهبات، إلا أن اندلاع الحرب قد جعل «عرمان» و»عقار» و»الحلو»، ومعهم حليفهم الدارفوري حركة العدل والمساواة ينقلبون على «تعبان» و»مشار»، ويضعون بندقيتهم في خدمة الرئيس «سلفاكير»، الذي وجد السند والدعم والمساندة كرئيس شرعي من حكومة السودان، وحتى لحظة انعقاد جولة المفاوضات لا يزال الوضع في الجنوب (غائماً) جزئياً لم تبزغ شمسه بعد، ولا يعرف إلى من تؤول القيادة، وقطاع الشمال ممزق بين عواطفه مع «تعبان» و»مشار» ومصالحه مع «سلفاكير».. فجاء «عرمان» إلى المفاوضات وذهنه مشتت ما بين مصير حلفائه في دولة الجنوب ومصير حركته.
ثانياً، بعد خطاب الرئيس «عمر البشير» الشهر الماضي والتقارب بين القوى السياسية الرئيسية، ممثلة في المؤتمر الوطني وحزب الأمة والشعبي والاتحادي الديمقراطي، وبوادر الحوار القومي التي لم تتبلور حولها رؤية واضحة.. هل سيعقد مؤتمر حوار قومي؟ أم ملتقى؟ وهل ستفضي التفاهمات بين القوى السياسية إلى قيام حكومة قومية؟؟ أم حكومة انتقالية؟ وما مصير الحركات التي تحمل السلاح؟ ومن يعبر عنها في المؤتمر؟ وهل ستضع السلاح وتعود إلى التفاوض مع كل القوى السياسية؟ كل هذه الأسئلة لا إجابة لها، لا من قبل المؤتمر الوطني الذي دعا إلى الحوار ولا القوى السياسية المعارضة التي قبلت بالحوار، وما بين القوى التي تحمل السلاح والمعارضة علاقات تشجيع، فحاملو السلاح يعدّون المعارضة في الداخل بمثابة المشجعين للاعبي كرة القدم، يدفعونهم لتحقيق الانتصار الذي يسجل باسم الفريق الذي يلعب في الميدان لا الجماهير التي تملأ المدرجات. وبعض القوى السياسية المعارضة (تتوهم) أن حاملي السلاح يأتمرون بإشارتها!! وهي مزاعم أثبتت الأيام هراءها.. كما أن المفاوضات قد ضربت تحالف الجبهة الثورية في مقتل، حيث ينص قرار مجلس الأمن (2046) على أن المفاوضات الخاصة بالمنطقتين تجرى على أساس مرجعيات اتفاقية السلام الشامل، برتوكول المنطقتين واتفاق أديس أبابا الموقع في 28 يونيو 2011م المعروف اصطلاحاً باتفاق (نافع- عقار)، وما هو باتفاق شامل بقدر ما كان اتفاقاً إطارياً بين المؤتمر الوطني والحركة العشبية قطاع الشمال.. ومن مفارقات المفاوضات المنتهية للفشل الأسبوع الماضي، أن وفد الحكومة ظل متمسكاً بالقرار (2046) ووفد الحركة الشعبية متمسكاً بجزئيات فقط من ذلك القرار بإصراره على اعتبار اتفاق (نافع- عقار) مرجعية وحيدة للتفاوض حول المنطقتين، والحكومة السودانية تقول إنها تفاوض فقط وفق مرجعية القرار (2046).. إذن الطرفان متفقان على مرجعية التفاوض، ولكن (المكابرة) وعدم الثقة و(تغليب) التكتيكات التفاوضية على الاستراتيجيات، وضعت الطرفين في حالة تنافر شديدة، وساهمت المعارضة في المنافي عمداً في إثارة «ياسر عرمان» رئيس وفد الحركة الشعبية حينما أطلق «أركو مناوي» تصريحاته بشأن انتهازية قطاع الشمال، وهي التصريحات التي أغضبت «عرمان»، وشعوره بأن حلفاءه في الجبهة الثورية من الحركات الدارفورية قد يتخلون عن قطاع الشمال في الصيف الساخن.. مع أن «أركو مناوي» ود. «جبريل أبراهيم» قد (دخلا) في تفاوض غير مباشر مع الحكومة من خلال آلية (أم جرس) و(لجنة صديق ودعة) في كل من أثيوبيا وكمبالا، وهناك اتصالات يقودها الرئيس التشادي «إدريس دبي» مع الحركات الدارفورية وحدها بعيداً عن قطاع الشمال.. تلك أبرز العوامل التي أدت إلى إجهاض المفاوضات. كما أن الحكومة أخطأت التقدير حينما دخلت المفاوضات بوفد أقرب إلى تمثيل المؤتمر الوطني لا الحكومة، حيث غيبت أحزاباً كبيرة من المفاوضات مثل الحزب الاتحادي الأصل، والحزب الاتحادي (جناح الدقير)، وأنصار السنة، وأحزاب الأمة المنشقة عن الأمة القومي، وآثرت الحكومة إشراك أحزاب جبال النوبة المحلية، وهي أحزاب لا حول لها ولا قوة، وينظر إليها حاملو السلاح بعين السخط والازدراء، ولا يعيرون ما تقوله انتباهة.. وكان أحرى بالحكومة أن تشكل وفداً من جميع مكوناتها السياسية، فتأتي بـ»إشراقة سيد محمود» من الاتحادي (جناح الدقير)، وتضم إلى صفها «تاج السر محمد صالح» و»أحمد سعد عمر»، ويذهب «أحمد بابكر نهار» مفاوضاً رئيساً، وليتها جعلت من حليفها «دبجو» ناطقاً رسمياً باسم وفد الحكومة المفاوض.. ولكن على نهج ثنائية مفاوضات (نيفاشا) و(الدوحة) مضت المفاوضات في أديس أبابا، حزب واحد وفي معيته أحزاب إقليمية تمثل إثنية النوبة فقط.. ويا لها من أخطاء كبيرة وساذجة لحكومة كان أحرى بها أن تتعلم من الأيام.
إذا كانت الحركة الشعبية قطاع الشمال قد قدمت ورقتها التفاوضية التي طغت عليها القضايا القومية، وتجاهلت عمداً قضايا المنطقتين، فإن ذلك لا يعني أنها لا تحمل تصوراً بعينه لقضايا المنطقتين، ولكنها آثرت إخفاء أوراقها الرئيسية إمعاناً في تضليل الوفد الحكومي، ومن ثم فإن للحركة الشعبية تصوراً لكيفية الحل قد يكون صادماً لمشاعر الطرف الحكومي أو مفاجئاً له، فالسيد «عبد العزيز الحلو» هو العقل المدبر للحركة الشعبية قطاع الشمال، ومعه د. «أحمد عبد الرحمن سعيد» الذي يمثل العقل المفكر وهو سياسي مثقف ثقافة رفيعة وقارئ جيد، لكنه متطرف جداً في أطروحاته، مثل الدكتور «عمر شريكان» الأستاذ السابق بجامعة الجزيرة.. والحركة الشعبية قطاع الشمال تنظر إلى قضايا النيل الأزرق وجنوب كردفان على أنها قضايا تهميش وتخلف تنموي.. وتمسكها باتفاق (نافع- عقار) يعود إلى رغبتها في إقرار مشاركة سياسية كاملة في الحكومة الاتحادية لا تقل عن نصيب الحركة الأم قبل انفصال الجنوب، وتغفل الحركة أن المنطقتين لا يتعدى تعداد سكانهما الثلاثة ملايين نسمة.. ولكن هل لوفد الحكومة المفاوض رؤية لحل قضايا المنطقتين؟؟ نعم.. هناك تصورات فيما يتصل بتدابير الاستيعاب والإدماج للقوات المتمردة بشأن اتفاق الترتيبات الأمنية والعسكرية، بيد أن الوفد الحكومي يعتري تصوره للحل السياسي قصور وبؤس شديدين، فالنظام الفيدرالي الذي تم تطبيقه منذ عام 1994م أثبت فشله وبات مسخاً مشوهاً للأنظمة الفيدرالية.. والانتخابات التي جاءت بولاة الولايات لم تحظ باعتراف الأحزاب المعارضة، ولا باعتراف المجتمع الدولي والإقليمي، والحكومة نفسها لم تحترم انتخاباتها، فأصبح المركز يقيل الولاة بذريعة أنهم تقدموا باستقالاتهم ويعين مكانهم آخرين، ولا تحظى الولايات بأية استقلالية عن المركز، وحتى تعيين المعتمدين والوزراء للمركز يده الطويلة التي تمتد بالرفض والإملاء.. فهل مثل هذا النظام يحقق الاستقرار في البلاد؟ ولماذا يجلس شخص في مكتب وثير بالخرطوم ويحدد لوالي غرب دارفور الشخص المناسب لإدارة محلية (مكجر)؟ وكيف يصبح موظف في القصر الرئاسي خبيراً في منطقة (طروجي) و(هيبان) ويحدد من هو الوزير المناسب لتمثيل تلك المناطق في حكومة كادوقلي؟؟
ولكن بعض قيادات المؤتمر الوطني ومثقفي جبال النوبة والنيل الأزرق لديهم تصورات لكيفية حكم المنطقة، وتصريحات السيد الوزير السابق «حاج ماجد سوار» الأسبوع الماضي ومطالبته بالحكم الذاتي لإقليم جبال النوبة، ما هي إلا تعبير عن ورقة شارك في إعدادها نخبة من مثقفي المنطقة، منهم «عمر سليمان آدم» عضو الوفد الحكومي، ود. «حسين كرشوم» عضو الوفد الحكومي، والمهندس «علي أحمد دقاش» نائب رئيس المؤتمر الوطني، والمهندس «خيري القديل»، و»أحمد علي سبيل»، والمهندس «سعيد حبيب».. ومن حزب الأمة «عبد الجيل الباشا»، والمهندس «سعيد أبو كمبال»، والورقة تمت مناقشتها في (مركز دراسات المستقبل)، وربما يحتفظ بها الدكتور «ربيع حسن أحمد» الآن في أضابير مكتبه، وبلغت تلك الرؤية الأستاذ «علي عثمان محمد طه» والدكتور «نافع علي نافع»، ولم يدرسها المؤتمر الوطني جيداً كخيار للخروج من عنق الأزمة، ولكن البروفيسور «غندور» عدّ الحديث عن الحكم الذاتي مرفوضاً وخطاً أحمر، لا يجوز الاقتراب منه، وكذلك يرفض البروفيسور «غندور» إعادة إنتاج (نيفاشا) الثانية أو مشاركة الحركة الشعبية في الحكومة المركزية.. فما السبيل في ظل واقع يشير إلى أن الأوضاع على الأرض في غير صالح الحكومة؟ وحتى لو بسطت سيطرتها على كل المحليات، فإنها تفقد مواطني المنطقة الذين يتضورون جوعاً وتطحنهم مأساة الحرب.
} العودة إلى كادوقلي والدمازين
{ غرقت سفينة مفاوضت أديس أبابا في لجة بحيرة (تانا)، وعاد الوفد الحكومي إلى الخرطوم ليبقى عشرة أيام ثم يعود مرة أخرى إلى الزهرة الجميلة.. وأصحاب الحق الأصيل في مسرح الحرب في النيل الأزرق وجنوب كردفان، يترقبون الأخبار ويتطلعون إلى اتفاق ينهي معاناتهم منذ اندلاع الحرب.. ووفد البروفيسور «غندور» بعد عودته ينبغي ألا يهدر الوقت في لقاءات الخرطوم و(تنويرات) قيادات حزب المؤتمر الوطني!! فكل شيء هنا معلوم، والصحافة نقلت ما جرى في كواليس التفاوض بمهنية.. وهناك أصحاب المصلحة في الدمازين ينتظرون البروفيسور «غندور» و»عبد الرحمن أبو مدين» لمعرفة أسباب انهيار المفاوضات، وكيفية عبور جسر عدم الثقة، واستخدام قطاع الشمال قضايا المنطقتين وتوظيفها في صراع سياسي كبير مع الحكومة المركزية.. فليذهب البروفيسور «غندور» وهو رجل وجد الكثير من القبول عند عامة الناس ويعدّه الكثيرون موضوعياً في أطروحاته، عفيفاً في لسانه، فليذهب إلى الدمازين و(السريو) و(الروصيرص) و(الكرمك) ويصغي لمدة يومين إلى المكوك والسلاطين والعمد حول رؤيتهم لمستقبل النيل الأزرق وقضاياها الحقيقية بعيداً عن وصاية الحركة الشعبية.. ويفتح «غندور» صدره لأحزاب المعارضة في النيل الأزرق، وحتى المتعاطفين مع الحركة الشعبية والمنتمين إليها ممن لم يحملوا السلاح ويهاجموا مقار القوات المسلحة، فللحركة الشعبية قطاع الشمال (مناصرين) في الداخل.. لماذا لا تصل إليهم الحكومة وتصغي إلى رؤيتهم وتشركهم في أمرها، ربما وجدت عندهم الحكمة التي غابت عن «عبد الرحمن أبو مدين» و»حسين أبو سروال».. والذين حملوا السلاح على قلتهم في النيل الأزرق ولم يحملوه حباً في القتال ولا طاعة لـ»مالك عقار» و»ياسر عرمان»، ولكن هناك أسباباً دفعتهم لحمل السلاح، وبيد الحكومة الحل ومعالجة الأمراض!! نعم.. الأوضاع في النيل الأزرق تحت السيطرة وتقهقر التمرد في مناطق بعيدة نائية، وما عاد يشكل تهديداً لأمن المواطنين، ولكن حرب العصابات لن تنتهي.. فعشرة مقاتلين يحملون السلاح يثيرون الفزع ويخربون الديار.
البروفيسور «إبراهيم غندور» مطالب بمغادرة الخرطوم إلى (كادوقلي) و(لقاوة) و(الدلنج) و(تلودي) و(رشاد) للإصغاء إلى رأي الأغلبية الصامتة بعيداً عن التقارير التي يبعث بها موظفو الحكومة.. يصبر على شكاوى الأهالي عن نقص الخدمات (ويسمع الكلام المُرّ) بدلاً عن الأحاديث (المعطرة) والعبارات المنمقة التي تصدر عن طالبي الوظائف والمرتقبين التعيينات والذين تتوق نفوسهم إلى التوظيف الحكومي!! فالصراع بين الحكومة والحركة الشعبية هو صراع على من يكسب ولاء المواطنين، ويجعلهم يسندون ظهره ويصغون إلى ما يقول، والمواطنون (موجودون) في (كادوقلي) و(الدلنج) و(أبو جبيهة) و(الدبيبات)، وكلها تحت سيطر الحكومة ونفوذها، وإذا نجحت في إقناع المواطنين فلا حاجة لتتكبد مشاق السفر إلى أثيوبيا، وللحكومة تجارب كان ينبغي الاستفادة منها.. فحينما وصلت الإنقاذ إلى السلطة في 30 يونيو 1989م حشدت إرادة موطنيها وحمل أبناء النوبة السلاح مع أخوتهم (الحوازمة) في جبال النوبة وحاربوا التمرد (جبل جبل) و(خور خور)، واستطاعت القوات المسلحة السيطرة على كل المناطق التي تمدد فيها التمرد الآن!! فلماذا تبدلت الآن الأوضاع وما عاد أهالي المنطقة متحمسين لحمل السلاح حتى للدفاع عن مناطقهم؟؟ والأدهى والأمرّ والمحزن أن الذين حاربوا الحركة الشعبية في التسعينيات أصبح بعضهم اليوم يحارب إلى صفها، بل إن نائب رئيس الحركة الشعبية من أبناء (المسيرية) وبعض قادتها من (البديرية) و(الحوازمة)!!
واجب البروفيسور «غندور» وهو يبحث عن حل لقضايا المنطقتين، أن يصغي إلى قادة الدفاع الشعبي وأمهات الشهداء، ويتقبل النصيحة من الإدارات الأهلية، ثم يعود للتفاوض في السابع والعشرين من الشهر الجاري.. كما أن ما يسمى بالأغلبية من أهل المصلحة مطالبين بتحديد مواقفهم والجهر بما يقولونه في مجالسهم الخاصة لرئيس وفد التفاوض بروفيسور «غندور»، الذي يحمل تفويضاً من الحكومة ليفاوض نيابة عن أهل المنطقة ويحقق لهم السلام المفقود.