بحر الهدوء..!!
(رجعو).. صرخت في زوجي بغيظ شديد, وكررتها في هستيريا: (قلت ليك رجعو.. ولدك الما عاجبك ده رجعو خليه يبدلوا ليك).. فغر فاه، ولكن لم يتدفق منه حديثه المذل المحبط, بينما انطلق ابنه نحو الحمام.. دارنا يا أهلي لا تعرف السكن ولا السكينة رغم مظهرها الذي يقول إنها جنة الله على الأرض, فالحرب التي أوقد أوارها رب الدار لا تعرف الهدنة، ناهيك عن أغصان الزيتون، وكم حاولت أن ألوح بالراية البيضاء لفك هذا الاشتباك السرمدي، ولكن فترت يدي وسقطت الراية.. فزوجي يصر وبشدة أن يكون أشرف ابنه صورة طبق الأصل منه.. كيف لا وهو الذي لازمه النجاح والتفوق والتميز طيلة أيام حياته, كل شهاداته تشهد بذلك، وحتى في مجال عمله وتخطيه لزملائه والوظيفة العالمية التي تنتظره, فقد اختصه الرحمن بذكاء خارق فتح له كل البوابات على مصراعيها، وبالطبع هو يريد أن يدلف منها ولده أيضاً.. جميل.. ولكن الصبي لا زال يحبو على بساط المعرفة، فلم إذاً كل هذه العجلة المخلة؟؟ ولعل نبوغ ابنتنا البكر “براءة” حفزه كثيراً لأن يسير شقيقها على ذات النهج وبنفس الخطى.. ولأن طارق زوجي حاز على عدد من أوسمة الامتياز، فقد أُعجب به البعض، ولكن هناك أيضاً من حسده ومن غار منه، ومن تمنى له زوال النعمة، لذلك كنت أخاف على أبنائي من البريق الساطع, خاصة عندما لمست من “براءة” ذلك الاعتداد الزائد بالنفس الذي يقود صاحبه إلى التكبر، فآراء ابنتي باتت تخيفني.. (ما عندي وقت أضيعو).. تقولها عندما أطلب منها المشاركة في قلة من مناسبات الأهل والمعارف الذين كانوا بداية يسألون عنها ثم تدريجياً زهدوا في ذلك, حتى “ريم” صديقتها الوحيدة تباعدت عنها بحجج واهية وأغلقت نفسها في عالمها.. يا إلهي.. إنها تمضى في ذات الدرب وإن كان والدها يعالج الأمر بما يجود به، فالحق يُقال إنه رجل كريم، وبالطبع هذا يسعدني، كما يسعدني اللقب الذي أطلقه “طارق” على كريمته (العبقرية الصغيرة).. ولكن أنا فقط أريد الموازنة التي باتت جد صعبة باختلاف آرائنا التي تسرب دخانها وملأ أركان دارنا الآمنة.. بداية اختلفنا على طريقة “طارق” القاسية مع ولده، خاصة عندما يجلس معه لمراجعة دروسه، وكم رجوته أن يترك لي هذا الأمر إلا انه أبى, فكنت أجلس في الصالة أحرس ولدي من (القراية أم دق)، فعندما يجلس “أشرف” قبالة والده يهرب منه الاطمئنان تماماً وتهتز ثقته تحت وطأة النبرات الحادة والملاحظات القاسية, فيتوه المسكين ويتلجلج، فيجن جنون والده وتتدفق كلماته المحبطة (حمار.. غبي.. أصلك فاشل)، فيرد عليه بدموع غزيرة.. بربكم أفي مثل هذا الجو يمكن لولدي أن يتذكر حتى اسمه؟! إلى أن كان مساء ذلك اليوم.. تصفح “طارق” دفاتر ولده طالب الصف الثاني أساس، وما أن أمسك بكراسة مادة الرياضيات حتى تململ ولده وانتفض هو صارخاً: (ده شنو؟؟).. كان يقصد الدرجة المتدنية التي حصل عليها ولده وأمسك الكراسة بين سبابته اليمنى وإبهامه, طوح بها ثم قذفها بكل قوته الغاضبة فطارت الكراسة من منتصف الصالة لتهبط عند مدرجها.. عفواً عند مدخلها وهنا انفلت الصبي.. لقد تعذب سنواته الست التي اصطدمت بصخرة أبوة صلدة لا تعرف الرحمة.. صدقوني أنا أرى سنوات ولدي المبعثرة، بل عشتها حقيقة في بلل فراشه وهو في هذا العمر.. أخفيت هذا الأمر (الشين).. عنفته.. بداية كان يعدني، ولكن سياط العذاب التي كان يصطلي بها لم تكن تتوقف.. والتأتأة التي أصابته أعلنت صراحة عن معاناة الصغير، فسأل البعض صراحة، وصمت البعض وإن كنت أرى أسئلتهم تتقاذفها عيونهم في استفهام كأنها لوحة مضيئة يتكرر ظهورها في تواتر ممل.. لا.. هذا أمر لا يُحتمل ولابد أن يتوقف وحالاً… سرت حيث ترقد أشلاء كراسة ولدي.. بداية هذا هو غلافها وعلى الديباجة البيضاء تقف حروف اسمه مسطرة بخط واضح وجميل، فولدي يجيد الخط ومرتب هو.. انحنيت.. رفعت الغلاف.. ثم الكراسة نفسها.. غلي الدم في عروقي (منتظرة شنو يا منال؟؟).. قصدت زوجي.. سألني بعنف: (مالك دايرة شنو؟؟).. أجبته بمنتهى الهدوء والجدية: (لو تكرمت من يوم الليلة أبعد خالص.. خالص.. خالص عن قراية ولدي).. رجع بكرسيه إلى الوراء قائلاً: (ولدك.. الفاشل دة؟؟).. دعوت عليه سراً: (يفشل كلاك) واستدرت مغادرة الصالة, لتلحق بي قذائفه: (مُش ولدك الفاشل ده أشبعى بيه).. أنا الآن داخل غرفة ولدي.. حقيقة كم هو مرتب.. على مكتبه الصغير يرقد كراس الرسم وبجواره علبة الألوان هدية صديقه وخاله “أيمن”.. فتحت خزانة ملابسه أخرجت بعضها علقتها على مقبض باب الحمام.. ناديت عليه من وراء الباب: (أشرف هدومك هنا).. جلست وحيدة إلا من خوفي على ولدي وكيفية الخروج به من هذه المحرقة الأبوية المستعرة.. صدقوني.. إن “أشرف” ليس بمثل الغباء الذي يراه أبوه، فالصبي يرجى منه الكثير.. فقط يحتاج إلى كلمة طيبة مُحفزة، وليست مُحقرة.. ذات مرة طلب مني طلباً مستحيلاً: (يا أمي عليك الله خليني أسكن مع ناس خالو أيمن).. ياه لقد زهد الصغير في أن يضمه بيت واحد مع والده وما أقساه من شعور.. أجبته: (لكن يا أشرف الزول بيسكن في بيتهم مع أمو وأبوه و..) وقبل أن أكمل أشاح بوجهه كارهاً: (لكن ياخ بيتنا ده…) وتنهد.. حزّ هذا الأمر في نفسي.. سامحك الله يا “طارق” فقد جعلت ابنك يتململ من دار الصقيع هذه.. إنه يبحث عن الدفء.. وعاهدت نفسي أن أمنحه هذا الدفء.. استعنت بـ”أيمن” شقيقي, هو يعلم كل شيء بحكم زيارته الدائمة لنا، فالحمد لله أنا أسكن بجوار أسرتي.. بدأ الحديث مع “براءة” فهي تحبه جداً.. استمعت إليه جيداً.. ذكرها بحبها لشقيقها الذي تفصل بينه وبينها سبع سنوات وكيف أنها كانت تلازمه وتلاعبه.. الحديث الحميم عن الإخاء الصادق حرك في كريمتي المشاعر الإنسانية الدافئة نحو شقيقها، فاقتربت منه خطوة فأسرع نحوها بخطوتين.. أما أنا فبكل الثقة فتحت صفحة جديدة مع ولدي وأعلنتها له صراحة (أنا أثق فيه جداً وفي نجاحه).. حقيقة كانت البداية جد صعبة، ولكن صبر الأمومة لا يفتر ولا يهن.. حاولت غزل شعاع الشمس ليرتديه ولدي لباساً من الدفء، وقد أفلحت.. بداية غيرت مكان المذاكرة من الصالة التي شهدت هوان ولدي, فكان أكثر جلوسنا للمذاكرة بالمطبخ, فيجلس هو مراجعاً دروسه بهدوء.. حاولت جاهدة أن أكسر جو الرهبة والتوجس الذي اعتاده عند المذاكرة مع والده.. أردت أن أجعله مطمئناً في المقام الأول، فكنت تارة أجلس بجواره لأشرح له ما استعصى عليه، وأخرى أبدأ في إعداد الطعام وأنا بجواره، وثالثة أطلب منه بعض المهام الصغيرة قائلة: (أعمل لينا شربات ليمون داب ما أنا أصحح واجب الرياضيات الأديتك ليهو).. وهكذا بدأ رويداً رويداً في الاستقرار، بل صار أكثر حماساً.. الطريقة الجديدة في المذاكرة أتت أكلها تدريجياً في نتائج الامتحانات الشهرية.. سجدت شاكرة لله الواحد الأحد.. طلبت من ولدي أن يقدمها لوالده.. تردد قائلاً: ( لكن يا أمي..)، شجعته: (درجاتك كبيرة ومشرفة وأنت اجتهدت عشان تجيبها, لازم تفرح أبوك كمان).. بعد أن تناولنا وجبة الغداء التي باتت تحمل بعض الحميمية والدفء والحديث رغم قلته, ذهبنا للرجل الذي نحبه ويحبنا (ولكن على طريقته).. قدم “أشرف” (كتابه) فقرأه الأب المتعجل, كان يومئ برأسه في ارتياح إلى أن نطق بها أخيراً: (جميل.. الحمد لله).. نعم الحمد لله، فقد نزلت الكلمة برداً وسلاماً عليّ وعلى ولدي.. عرجنا على “براءة” التي أزاحت دفاترها.. بسطت شهادة شقيقها وقرأت درجاته بصوت عالٍ.. لاحظت أن عيني ولدي قد لمعتا بالثقة.. استأذن “أشرف” في الذهاب إلى منزل جده: (عايز أوري ناس جدو وخالو أيمن الشهادة).. أفلحت في إقناع ابنتي بالمشاركة في فرح ابنة عمها.. يومها انطلقت مع نديداتها.. عاشت لحظات مغايرة، بل شاركت مع الصبيات في توزيع ضيافة المناسبة والاهتمام بالضيوف.. عندما عدنا إلى الدار شكرتني قائلة: (شكراً يا أمي والله أنا الليلة غيرت واتبسطت ولاقيت بنات أهلي.. أنا ما كنت بعرفهم).. فرددت عليها: (أيوه يا براءة الزول أصلاً ما بيبقى براه).. أجل يا ابنتي لكي نحيا في هذه الدنيا فلابد أن تتفرع دروبنا، فالطريق الواحد مهما كان معبداً فهو رتيب ممل.. اقترب موعد سفر “طارق” وها هو يرتب حقيبته بنفسه حسبما طلب.. نظراتي كانت تتابعه.. هذا الرجل المرتب الدقيق (المتعجل).. ريشة العمر لونت صدغيه باللون الأبيض كما تخللت شعيرات بيضاء شعره الأسود الخشن فأكسبته كثيراً من الوقار.. انتبه لمتابعتي له.. ترك كل شيء.. جلس بقربي.. أمسك بيدي قائلاً: (أم أشرف الله يديك العافية) ولمعت عيناه بغلالة من الدمع سمح لها أن تنزل.. قال في رجولة: (حأسافر وأنا مطمئن).. يااااه.. لم أنطق بحرف، فالحروف تفسد مثل هذه المواقف.