أخبار

استراحة الجمعة

} ارتمى “عثمان” في سريره قبل أن يخلع بنطال الجينز الأسود والقميص الأحمر.. كان مرهقاً جداً.. وضع الجاكيت البني على كرسي صغير بالقرب من سريره وداعبت جفنيه مقدمات النوم، ولكنه كان قلقاً في غير عادته.. نظر إلى سقف الغرفة التي يتقاسمها مع أربعة من السودانيين.. “أحمد” الذي يعمل في الباب الشرقي في مطعم يرتاده السودانيون، و”خالد” الذي قبض عليه في مدينة البصرة وأودع السجن بتهمة ترويج المخدرات، و”حسين” الذي كان يعمل مع أحد العراقيين بسوق (الكرخ) وسط ببغداد، ولكنه فقد عمله بعد مقتل صاحب المتجر على أيدي مسلحين عراقيين داهموا منزله بضاحية الخالدية في وضح النهار.
تذكر “عثمان” والدته حاجة “صفية” وهي تعود من المدرسة، حيث تعمل (فراشة)، ووالده الذي تم فصله من مصنع النسيج بتهمة الانتماء للحزب الشيوعي.. عشر سنوات انقضت على خروج “عثمان” من السودان إلى ليبيا ثم اليمن وأخيراً العراق.. لماذا تذكر والدته وأسرته اليوم؟! وحتى “فتحية” سبب (بلاويه) وأوجاع قلبه، طافت صورتها بمخيلته وهي تمشي الهوينى وترتدي ثوبها المشجر وتغمز بعينيها الحلوتين.. تناول علبة السجائر التي وضعها فوق أشرطة الكاسيت والمسجل الكبير الذي يدغدغ مشاعرهم في أمسيات بغداد الموحشة.. أشعل “عثمان” سيجارته وأخذ ينفث الدخان، ويتأمل مصيره في بلاد سلبت سيادتها وأضحت أسيرة تحت حكم طغاة قادمين من وراء البحار.. تذكر أيام “صدام حسين” وشارع (أبو نواس)، وحزب البعث، ومجد السودانيين بعيداً عن وطنهم!!
} أخذ “عثمان” يترنم بأغنية كتبت في (واو) لشاعر من شرق السودان، وتغنى بها “وردي” (ما في داعي).. تأمل كلمتها وقد مست شغاف قلبه.. لماذا هجرت مهنتي كمعلم للرياضيات في وطني وأصبحت (حارساً) لأبواب العمارة التي يقطنها عراقيون وأرمن وهنود وبنغاليون؟! يقوم “عثمان” يومياً بنظافة قاذورات شعوب العالم الضالة وقلبه يحدثه بالعودة إلى وطنه مهما خيم عليه الفقر والعوز، فإنه لن يجعل أستاذ الرياضيات خفيراً أو بواباً وفي بلاد الشام يدعونه بالناطور!!
} عشر سنوات و”فتحية” تحدق في فضاء مجهول تنتظر قدوم “عثمان” من بلاد العراق، ومثيلاتها من البنات أنجبن مثنى وثلاث ورباع.. ولكنها متشبثة بأمل عودة “عثمان”.. أغراها مغتربون عائدين من الخليج وليبيا بعدد الحصى.. ولكن وفاءها لـ”عثمان” وتمسكها بابن خالتها جعلها ترفض كل إغراءات الزواج من أثرياء قادمين من بلاد ترامت وراء بلاد.. وينهض “عثمان” من سريره بعد شعوره بالجوع الشديد وبرودة الطقس تغري بتناول خبز ساخن وحساء لحم.. وضع الجاكيت على كتفيه المرهقين وأخذ يدندن بكلمات لم يفهمها العراقي الذي قدم إليه صحن الغداء.. فجأة أطل وجه مألوف وقف أمام “عثمان”.. “سيد”.. نعم أنا “سيد” أنت يا “عثمان” هنا؟! تعانقا طويلاً وذرفا الدموع.. سبحان الله.. يجمع الأحباب.. متى جئت من السودان؟! منذ يومين.. أخرج “سيد” كيس (تمباك) من جيب بنطاله.. فأسرع “عثمان” ليخطف (كيس العماري) وقال: حُرمت عشر سنوات لم تدخل (سفة) شفتي الشقية.. وضع (السفة) أسفل شفته.. شعر بدوار وارتخاء في الأطراف وقال: (تمباك الدمك زرعوه في دارفور وفي بغداد خبط راس زول)!! سأل “عثمان” ابن قريته “سيد”: هل زرت والدتي قبل مغادرتك السودان؟ صمت “سيد” وقال: والدتك الله يرحمها ماتت قبل ثلاث سنوات.. تساقطت دموعه بغزارة وقال: ووالدي؟! نظر “سيد” إلى الأرض طويلاً وقال: في السجن يبقى إلى حين السداد.. أما “فتحية” فقد ظلت صابرة في انتظار عودتك لإكمال الزواج حتى العام الماضي.. ولكن غلبها الصبر فتزوجت من “هارون” التمرجي.. قال “عثمان”: مافي فايدة.. وانكفأ على نفسه يبكي في حرقة وأسى على أحلام ضاعت وآمال تبددت!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية