أخبار

الفراغ العريض..!!

} قبل عشرين عاماً قرأت رواية (الفراغ العريض) لإحدى الكاتبات الرائعات.. سقط اسمها من ذاكرتي التي شاخت.. الرواية يدهشك توغلها في مسامات الفكر الحديث.. تصور واقع الشباب اللاهي عبثاً بالموسيقى والغناء والرقص، لا يقرأ ولا يكتب ولا يعمل بجد من أجل وطن (قعيد)، وحينها ما كانت الحروب قد اشتعلت في جسده العليل إلا حرب الجنوب التي ورثها الوطن منذ يوم رحيل المستعمر.
} تذكرت تلك الرواية الرائعة وأنا (أنجو) بأعجوبة من حادث سير في وسط الخرطوم حوالي الساعة التاسعة صباحاً.. شاب في العشرينيات من العمر يرتدي ملابس أنيقة ويحمل في يده هاتفاً ذكياً مشغولاً بـ (الواتساب) وهو يمشي الهوينى في قلب الشارع، لا يكترث للسيارات ولا المارة ولا طرق ولاية الخرطوم التي تتعدد (حفرها) وحجارتها وتشكل خطراً على أرواح الناس وأرواح السيارات.. هذا الشاب لا يسمع صوت منبه السيارة ولا أحاديث المارة، وحينما أصبحت أمامه وجهاً لوجه اضطررت إلى استخدام كوابح السيارة بشدة، والشاب منهمك في هاتفه ينظر إلى الشاشة الساحرة.. توقفت بالسيارة في منتصف الشارع وخلفي توقفت عدة سيارات والشاب يخطو واثقاً نحوها، فاستخدمت المنبه بعنف ليسقط الشاب أمام مقدمة السيارة التي توقفت!!
سقط الهاتف من يد الشاب، ونهض معتذراً عن سلوكه غير مبالٍ لملابسه التي اتسخت، وبدأ سخط سائقي السيارات على الشاب وتأنيبه بشدة، حتى شرطي المرور دخل في الحلبة طالباً من أصحاب السيارات أن (يباركوها)!!
} آلاف الشباب والشابات يسيرون في شوارع الخرطوم معصوبي العينين، شاردي الذهن مع أجهزة الهاتف الذكية.. رسائل الـ (واتساب) و(فيسبوك) جعلت جلسات الأنس في الأمسيات باردة وجافة، وانصرف الناس عن التلاقي الحميم والعناق الحار، وقتلت التكنولوجيا قصائد الحب والحرمان، وجفت ضروع الشعر في الأحداق!!
} أما بيوت الأتراح، حيث ينتظر أهل الفقيد من المعزين كلمات مواساة وحميمية تخفف عنهم وقع فقدان العزيز الراحل، فقد أصبحت مثل بيوت الأفراح!! فبعد الفاتحة على روح الفقيد، وقبل أن يتناول المعزي كوب الماء البارد ينصرف إلى هاتفه للرد على رسالة وردت إليه من المجموعة التي ينتمي إليها.. وينسى وجوده في بيت العزاء و(يندغم) في الـ (واتساب) لفتح (الفيديوهات) التي بعثت إليه.. وفي حارتنا الأسبوع الماضي كان أحد المعزين في بيت (البكاء) يفتح هاتفه لرسالة وردت إليه، وإذا بمغنية تصدح بكلمات هابطة، وعبثاً حاول الرجل ذو اللحية البيضاء إيقاف الرسالة الغنائية!!
} بات السودانيون لا يقرأون كتاباً ولا يشاهدون حتى المسلسلات المصرية، ولا تربطهم بوسائل إعلامهم الوطنية إلا أخبار كرة القدم والدوري الممتاز.. الكل لاهٍ مع هاتفه الذكي.. يتبادلون الغث والثمين.. بعض الرسائل الفاضحة التي يبعث بها عبر الـ(واتساب) تذهب خطأ إلى غير مقصدها.. وقد حذر العلماء في المملكة العربية السعودية من إفشاء الفاحشة عبر الرسائل والصور الخليعة، لأنها سنة سيئة لك وزرها ووزر من بعث بها لآخرين حتى يوم القيامة!! فرسائل الهاتف الذكي قد تورد صاحبها النار وقد تدخله الجنة.. وقد تؤدي به إلى المستشفى مصاباً.. وبعض سائقي السيارات ينصرفون تماماً عن قيادة سياراتهم وهم يتحدثون ويتصفحون الـ(واتساب).. حتى حراس البوابات في المستشفيات والمرافق الحكومية، أصبحوا مشغولين بهواتفهم أكثر من مهامهم وواجباتهم!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية