رأي

لكنه الخوف!

الخوف يعطي الإنسان قدرات إضافية فيأتي بأفعال لا يستطيع أداءها في الظروف العادية. حالة خوف شديد جعلت أحدهم يقفز خوراً عرضه ستة أمتار. كان ذلك في الستينيات عندما كان المولد ينظم في ميدان “عبد المنعم” الذي به نادي الأسرة الآن. كان هذا الشخص عائداً من المولد في ليلته الأخيرة، برفقة إثنين، وقد اشترى ثلاثتهم كمية حلوى المولد يريدون توصيلها إلى إخوتهم في المنزل. ولما كانوا يقيمون في منزل بحي القوز فقد رأوا اختصار الطريق عندما وصلوا إلى حدود المنطقة الصناعية بالخرطوم، التي يفصلها ميدان كبير عن القوز هو ميدان الرابطة. في تلك الأيام لم تكن الشوارع مضاءة. وكان هذا الميدان أفضل مكان لقاطعي الطريق خاصة ليلاً.
قال لي ذلك الشخص إنَّ ثلاثتهم اتفقوا على أن يعبروا ذلك الميدان المظلم، لأنه اقصر طريق إلى منازلهم. وعندما توغلوا في الميدان المظلم شاهدوا أشخاصاً جالسين في الميدان وأرادوا أن يعبروهم بسلام. لكن الأشخاص كانوا من قاطعي الطريق ورأوا أنها فرصة ذهبية للحصول على حلوى المولد مجاناً، لذا سمعوا أحدهم يخاطبهم (ما قالوا ليكم الطريق ده خطر يعني عاملين فيها ما بتخافوا)؟ فرد أحد الثلاثة: (إنت بتتكلم معانا؟) فجاءه الرد فوراً: (يعني في واحد غيركم هنا).
تأكد لهم أن هؤلاء قاطعو طريق، ولكنهم لم يستطيعوا الهروب لأن الرباطين أحاطوا بهم من كل جانب. وأخذوا منهم كل كميات الحلوى وكانت عدة أرطال. وبعد أن أخذوها قالوا لهم: أمامكم دقيقة واحدة للاختفاء من أنظارنا. قال محدثي إنهم انطلقوا يركضون بقوة، ولم يحسوا أنهم يعبرون خوراً عرضه ستة أمتار. ولما جاءوا صباح اليوم التالي لم يصدقوا أنهم قفزوا فوق ذلك الخور العريض لكنه الخوف.
عام (74) اندلعت تظاهرات ضد “نميري” في كل أنحاء الخرطوم. وكنت أنا في إحدى تلك التظاهرات التي تحركت من المحطة الوسطى الخرطوم إلى محطة السكة الحديد. عندما اقتربنا من سور المحطة في شارع القصر أطلقت الشرطة علينا قنابل الغاز. لم يكن أمامنا سوى الفرار. تفرقنا كل مجموعة ركضت في اتجاه وكنت ضمن المجموعة التي ركضت باتجاه الغرب إلى كبري الحرية. وتحرك خلفي شرطيان كانا في حالة إصرار شديد للقبض علىّ. وكلما حاولت الابتعاد عنهما كانا يزدادان إصراراً على الاستمرار في مطاردتي. صعدت إلى كبري الحرية فصعدوا معي. وعندما هبطت التفت ووجدتهما خلفي. أي أنهما ازدادا إصراراً في القبض علىّ فزدت سرعة وأنا أركض في شارع الحرية.
واضطررت إلى تغيير مساري لأضللهما حيث دخلت إلى حي الخرطوم جنوب، ولكنهما كانا يواصلان المطاردة خلفي بكل إصرار. ودخلت إلى شوارع جانبية وعندما خرجت منها كان الشرطيان ما يزالان خلفي. فرأيت العودة إلى شارع الحرية على أساس أنه مزدحم بالسيارات، ولكنهما لم يتوقفا عن مطاردتي.
وأخيراً اتخذت قراراً بالاستمرار في الركض جنوباً حتى منزلنا في الامتداد، ونفذت ما عزمت عليه واستمررت في الركض الشديد دون توقف ولو للحظة. وعبرت منطقة السجانة كلها والشرطيان خلفي واستمرا في الركض، إلى أن وصلت إلى الشارع الذي يؤدي إلى سينما النيلين. وأخيراً لاحظت أنهما قررا التوقف في الركض لكني أنا لم أتوقف واستمر ركضي.
ولا أعرف سر القوة التي أتتني لدرجة لم أحس بالتعب أو العطش. وعبرت منطقة الديوم ونادي سباق الخيل واضطررت لدخول العشش، وأنا أتلفت رغم أن مطارديّ قد عادا لكنه الخوف. وقلت لنفسي إنني لو توقفت فسيحضران للقبض علىّ. واستمررت في الركض دون توقف إلى أن وصلت إلى منزلي في الامتداد وأنا أتلفت في خوف. ولم أصدق أنني داخل المنزل وأتحرك في أمان. ولم ألاحظ أنني قطعت حوالي العشرة كيلو مترات ركضاً، لكنه الخوف.
} سؤال غير خبيث
هل تصدق أنني وزملائي المتظاهرون لم نحطم أي ممتلكات عامة خلال التظاهرات؟

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية