أخبار

الحكم الذاتي

} سؤال وجهته لي هيئة الإذاعة البريطانية وتلفزيون (BBC) عن مفاوضات السلام التي يعاود قطارها الانطلاق الخميس المقبل بين الحكومة ومتمردي قطاع الشمال بشأن (المنطقتين)، جبال النوبة والنيل الأزرق، وهل يمثل اتفاق (نافع – عقار) مرجعية لأية تسوية نهائية؟! قلت إن الخيار الأمثل لمعالجة القضية السياسية في المنطقتين هي (الحكم الذاتي) لإنهاء الأزمة الحالية بوقف الحرب ثم حل القضية السياسية لسكان المنطقتين في ظل سودان موحد بعد ذهاب الجنوب إلى سبيله. والحكم الذاتي ليس بدعة ولا يشكل سابقة قد تهدد السودان بالتجزئة والانقسام.. بل استمرار الحرب والتمادي في الرهان على البندقية والحلول العسكرية هو الخطر الداهم الحقيقي على وحدة ما تبقى من البلاد.. و”إثيوبيا” التي تحتضن مفاوضات السلام ابتدعت بعد سقوط دكتاتورها السابق “منقستو هيلا مريام” نظاماً سياسياً أقرب للكونفدرالية.. ومنحت أقاليم البلاد حكماً ذاتياً في إطار الدولة الإثيوبية، ويحق لأي إقليم إثيوبي الانفصال عن الدولة في حال تصويت برلمانه المحلي على مشروع قرار بالانفصال وفق تدابير وتراتيب بعينها!!
} والحكم اللا مركزي الذي انتهجته حكومتنا منذ عام 1994م، فشل تماماً في أن يعصم البلاد من الانزلاق لانفصال الإقليم الجنوبي حينما منح سكانه حق تقرير المصير.. ولم يقتنع أغلب السودانيين بأن الحكم الفيدرالي الحالي يلبي الأشواق والطموحات ويحل مشاكل التناقض بين المركز والولايات، وإلا فلماذا نشبت حرب دارفور عام 2003م، وتجددت الحرب في إقليمي (جبال النوبة) و(النيل الأزرق).
} ويفقد سكان الأطراف ثقتهم في المركز كل يوم والمركز يمضي مسرع الخطى نحو مزيد من المركزية القابضة ويصدر قراراً بوقف المصادقة للولايات بفضائيات لتعبر عن نفسها وثقافتها بما تمليه عليها التزاماتها نحو مواطنيها.. والحكم الذاتي لا يفتت عضد البلاد ويهدد وحدتها ويمزق شملها ويقود إلى الانفصال والتجزئة، كما يعتقد البعض خطأً.. ولكن القبضة المركزية والسيطرة على الناس ومحاولات تشكيلهم ثقافياً وفكرياً في قالب واحد.. والحكم الذاتي في تعريفه لا يختلف في جوهره عن الحكم الفيدرالي الحقيقي لا الفيدرالية المشوهة التي يتم تطبيقها الآن في السودان.. حيث يفرض المركز سطوته على الولايات ويخضعها لبيت طاعته إما بلي ذراعها بالمال أو تخويف الولاة بالإقالة عن طريق الحزب.. حيث يفرض على الوالي المنتخب تقديم استقالته وهو مكره ليذعن في نهاية الأمر لسلطان المركز.. ومن لم يستقل (مجبوراً) عليه أن يوطن نفسه ليصبح تلميذاً في مدرسة الخرطوم العاصمة وحواراً في المسيد الكبير.. يأتي بترشيحات حكومته حاملاً كتابه بيمينه ويجلس أمام المسؤولين خاضعاً ذليلاً يقدم أسماء الوزراء والمعتمدين والمستشارين، ويتم تصحيح كتابه بالقلم الأخضر الفاقع أو الأحمر القاني، ولا يملك حق إعفاء المعتمدين والوزراء إلا بعد أخذ الإذن من المعلم الكبير في الخرطوم.. وليت المعلم واحداً، بل يتعدد المعلمون والأساتذة في الحزب، بعضهم من صغار السن وآخرون من الشيوخ أصحاب النظارات المتعددة.
} وهذا التطبيق المشوه للحكم الفيدرالي أنجب المشكلات والصراعات والتمردات وما تزال في الأفق تلوح بوادر أخرى. والحكم الذاتي الذي تطالب به نخب وقيادات من مناطق النزاعات ينبغي أن تتم دراسته، وأن لا يقرر برفض من ينتهجون العجلة سلوكاً في حياتهم!!
} وإذا كان قيادي في المؤتمر الوطني مثل “حاج ماجد سوار” يطلق الدعوة جهراً لإقرار الحكم الذاتي، فلا يحسبن أحد إن مثل هذه الدعوة لا تجد سنداً لها على الأرض من الذين يعيشون مأساة الحرب والضياع.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية