لماذا التفاوض؟!
} نجح البروفسور “إبراهيم غندور” بعقلية السياسي الواقعي في عبور (لغم) “عرمان” وقطاع الشمال وبغض البعض هنا في الخرطوم لبعض قادة الحركة الشعبية ومنهم “عرمان” و”الحلو” و”عقار”.. وقالها المساعد قاطعاً الشك (سنفاوض من يمثل الحركة) وأضاف لها عبارة بلدية تراثية كشأن معظم السياسيين في بلادنا حيث باتت أدبياتهم الخطابية مزيجاً من اللغة العربية والإنجليزية واللهجات المحلية: (ما فارقة معانا).
} ينبغي أن (لا يفرق كتير) مع الحكومة إذا كان رئيس وفد التفاوض “ياسر عرمان” أو “جقود مكوار” أو حتى “آدم كرشوم” أبرز قيادات المسيرية في الحركة الشعبية.. لأن جوهر التفاوض ينهض على الحوار بين النقائض لا المتشابهات.. ولذلك تجدني أكثر ميلاً ليقود المفاوضات من جهة الحكومة النافذون في مفاصلها، لا المشاركون في ولائها.. وأن يسند أمر التفاوض لشخصية صانعة قرار مثل “نافع” في العهد القديم و”غندور” في الزمان الحالي، مع إشراك أهل المنطقتين مستشارين أو خبراء في جزئيات من التفاصيل التي تقطنها الشياطين. أما أن تسند المفاوضات لأهل المنطقة – كما يطالب البعض بذلك – فهي أماني وأحلام تفارق الواقع. والمفاوض الحكومي ينبغي أن يتحلى بثقة المركز والقيادة العليا ويملك قراراً سياسياً يخول له أن يتنازل ويمنح ويمنع، ولو كان في الدولة من أبناء تلك المناطق التي تحمل السلاح من يتخذ القرار ويمنح ويعطي ويقرر، لما حمل هؤلاء البندقية من حيث المبدأ.. وفي تسعينيات القرن الماضي جمعتنا في منزل المرحوم “يوسف كوة مكي” بالعاصمة الكينية نيروبي جلسة تفاوض ضمت من الوفد الحكومي الراحلين “مكي بلايل” والعميد (م) “حمد عبد الكريم السيد” ومن الأحياء الدكتور “عمر سليمان آدم” والمطران “يونثان حماد”.. فسألنا المرحوم “يوسف مكي”: هل منكم من يستطيع أن يمنح جنوب كردفان منصباً مرموقاً كوزارة الداخلية؟! وهل منكم من يملك حق التصديق بمال لإنشاء مدرسة في كادقلي؟! وهل يستطيع أحدكم الحديث هاتفياً مع الرئيس وقت يشاء؟! لا أنتظر منكم إجابة ولكن دعوني أفاوض من أعتقد أنه ظلمني؟!
} وقد تجاوز البروفسور “غندور” الشروط المسبقة التي كانت توضع قبل بدء التفاوض، ولكن ما هي القضايا ينتظر الحوار حولها وصولاً إلى حل سياسي ينهي معاناة مواطني المناطق التي تدور فيها الحرب؟! أولاً لا بد من الإقرار بأن أكبر مهدد لوجود الحكومة في السلطة هي الحرب التي تدور الآن وتبعاتها من تدهور في الخدمات وتردي الأوضاع الاقتصادية.. وفي ظل الحرب سينحدر السودان إلى أسفل كل يوم، وتضيق فرص العيش الكريم وتهدر الموارد والطاقات. والإصرار على الحلول العسكرية من شأنه الإسهام في إسقاط النظام وإن تمسك بأهداب البقاء.. ثانياً الحكومة مواجهة بالتزامات أخلاقية نحو مواطنيها الذين شردتهم الحروب وجعلت ثلاث عشرة ألف امرأة يحترفن صناعة الشاي في ولاية الخرطوم وحدها ويتعرضن لصنوف من العذاب والإذلال والقهر بسبب احتراف مهنة تعتبرها الحكومة غير مرغوب فيها.. وقد نشرت الصحف أمس خبراً عن باحثة اعتبرت أن من أسباب تفشي مهنة صناعة الشاي الفقر والحرب.. وبلغ عدد المدارس التي أغلقت أبوابها وهام طلابها على وجوههم نازحين ولاجئين ما يربو على المائة وسبعين مدرسة بولاية جنوب كردفان وحدها.. وأي تنازلات تقدمها الحكومة لصالح التسوية السياسية وإيقاف نزيف الدم وإهدار الموارد هي تنازلات لنفسها ولشعبها الذي يستحق العيش بكرامة وشرف.. وأمام الحكومة قضايا جوهرية لا مناص من نقاشها والحوار حولها.. أولى تلك القضايا هي النظام الفيدرالي الحالي.. هل يلبي طموحات وأشواق المناطق التي تحمل السلاح؟! وهل نقص التنمية والخدمات هو من دفع بعض مواطني تلك المناطق لحمل السلاح أم هناك أسباب أخرى؟ وهل صيغة المشورة الشعبية التي جعلتها اتفاقية وصفة علاجية لأمراض المنطقة لا تزال وصفة صالحة أم تجاوزها الزمن؟!
} غداً نواصل.