«العاقب محمد حسن» .. مطرب الفنانين!!
على تكسر أمواج شاطئ (جزيرة توتي)، وشهقة صباحٍ بهي، توقفت طيور النيل عن المسير، وأصاخت الطبيعة سمعها باحثة عن صوت طفل وليد منبعث من داخل الجزيرة، فأتى الفنان “العاقب محمد حسن” مبعثراً خطوات الدهشة الأولى في العام (1935م)، لينفي بصراخه العذب ما قاله الشاعر “ابن الرومي” عند مجيء وحي الوجود (لما تؤذن الدنيا من صروفها يكون الطفل ساعة يولد)، ليوقع بذاك الصوت الرخيم على أنامل الصباح ذي الطقس الغنائي الوليد، فالطير أحسن ما تغنى عندما يقع الندى ليحبو بين أنامل الطبيعة الغضة. ويترعرع على كفة الأخلاق القويمة بين إيقاعات النوبة وأدب الصوفية، ويعرج ليستمع إلى أساطين الغناء في ذاك الوقت “سرور” و”كرومة”.. وتتعلق ذائقته حينها بعميد الفن الراحل “أحمد المصطفى”، لا سيما وأن طابع الهدوء خالط كليهما.. كل هذا جعل الفنان الراحل “العاقب محمد حسن” يملك زمام الموهبة والتواضع والأدب، ويغلفهما بالدفء والشجن الحالم ورقة كلمات بأحرفٍ نضيدة بألحان تضوع سحراً.
فغنى على إيقاع المارش (أرض أجدادي الكرام) و(الفالس)، ثم (التم تم)، وأجاد العزف على آلة العود وحتى الـ(عشرة بلدي). وبدأ بأغنية (شكوى) للشاعر “مهدي محمد سعيد”، ثم (حبيب العمر) و(هذه الصخرة)، إضافة إلى (ظلموني الحبايب)، (اتدللي ادللي وادللي.. وأنسيني يوم ما تسألي.. أنا قلبي بالريد مبتلي)، (حبيبي ظمأت روحي وحنت للتلاقي)، (غن يا قمري)، (يا حبيبي نحنا اتلاقينا مرة)، (عايز أشوفك)، (نجوى) و(نورت الكون).. ومن الأغنيات الوطنية (أرض أجدادي الكرام) والكثير، فهو لديه ما يقارب الـ(90) أغنية.
} علاقته مع “السر قدور”
تربط الفنان “العاقب” وشائج صداقة وطيدة بالشاعر “السر قدور”، فكانت ليالي (نادي البوستة الثقافي) تشهد على أغانيهما وأعمالهما المشتركة، وصوت ضحكاتهما المجلجلة تصف بصدق مدى القربى بين هذين الفنانين، وربما قصة أغنية (إتلاقينا مرة) مع الفنانة “عائشة الفلاتية” الشهيرة ليست ببعيدة عن واقع تلك الصداقة.
} أثر الثقافة المصرية
عندما أرسلت (مصر) في أوائل الخمسينيات البعثة التعليمية المصرية، كان الموسيقار وعازف آلة القانون “مصطفى كامل” من ضمن أفراد البعثة، ومن حسن حظ “العاقب” أن تعلم على يديه بمعية الموسيقار د. “الفاتح حسين” والفنان الراحل “التاج مصطفى”، لذلك نجد صوت آلة القانون في كثير من أغنياته مثل (نجوى) و(نورت الكون) و(غن يا قمري)، ورغم هدوئه الظاهر للعيان لكن دواخله كانت تضج قلقاً. ولم يكف دأبه عند هذا الحد بل طفق باحثاً عن موسيقى أفضل تروي ظمأ روحه المتعطشة للغناء، فذهب في أوائل السبعينيات إلى (القاهرة) مدينة الفن آنذاك– مبتعثاً من الحكومة السودانية- ليدرس في (معهد الموسيقى العربية) بمعية عازف الكمان “محمدية” وعازف الأكورديون “عبد اللطيف خضر” والملحن “برعي محمد دفع الله”.
وبعد مرور ربع قرن على مسيرته الفنية في أواسط السبعينيات تمت ترقيته إلى الدرجة الأولى الممتازة.
} “العاقب” و”محمد عبد الوهاب”
إضافة إلى ذلك، تأثر الفنان “العاقب” بالفنان المصري “محمد عبد الوهاب”، لا سيما وأنه يغني على السلم السباعي فأتت (ساعة ما بشوفك جنبي) تحكي بصدق عن مدى تأثر الفنان “العاقب” بالموسيقار “محمد عبد الوهاب”، إضافة إلى أنه سجل أغنية (الحلو الأسمراني) بالإذاعة المصرية.
} قبل وفاته
لم يتوقف طائرنا الشجي عن التحليق في أرض العروبة حتى وصل إلى مضارب الأندلس، وحلق بين قصورها، ليلتقط قصيدة (حنين) أشهر قصائد الشاعر الأندلسي “ابن زيدون” ويضوعها بلحن سلسال يسلب العقول، والتي يقول مطلعها:
أضحى التنائي بديلاً من تدانينا وناب
عن طيب لقيانا تجافينا
حالت لفقدكم أيامنا فغدت
سوداً وكانت بكم بيضاً ليالينا
لكن المرض لم يسعفه ليسجلها للإذاعة، إضافة إلى أن في أوائل التسعينيات شهدت الإذاعة فترة إيقاف تسجيل الأغاني ليأخذه الموت عنوة من بين يدي محبيه، فرحل عن دنيانا في 13 يوليو 1998م.. وبهذه الحقبة من العمر يمضي الفنان “العاقب محمد حسن” ويصبح رمزاً لسمو رسالة الفن.. كيف لا، وقد أصبح الفنان المفضل لجميع الفنانين والموسيقيين، وهو الأنموذج المثالي للفنان المهذب الخلوق، تاركاً خلفه قلوب العاشقين صرعى بغيابه الأليم بعد أن هدهد أمسياتهم وأمنياتهم بحلو الشدو الجميل.