مؤشرات ومبادئ للحوار.. ليس إلا!!
ضخّم أهل الإعلام والسياسة ما كان متوقعاً ومنظوراً من خطاب السيد الرئيس مساء الاثنين (أول من أمس) في القاعة الرئاسية بقاعة الصداقة التي احتشد فيها جمهور المدعوين (الأعمى يشيل المكسر..!) كما نقول في عاميتنا. فقد كان الحضور في مستوياته ومقاماته المختلفة غير مسبوق أو معهود في ربع القرن الأخير الذي أمسك فيه حزب المؤتمر الوطني بالسلطة، ذلك أن كبرى أحزاب المعارضة وزعاماتها كانت هناك مما زاد من التطلعات والتوقعات لدى جمهور الإعلام والسياسة. فوجود “الترابي” و”المهدي” في مناسبة سياسية واحدة وليست أسرية، كانت محل استفهام وتعجب كبيرين، وما هو أكثر إثارة لذلك وجود “الترابي” بعد قرارات الرابع من رمضان 1995م في حدث سياسي يخص خصمه المؤتمر الوطني– الحزب الحاكم. فقد كانت دار الحزب الشيوعي هي الأقرب إليه بعد الانفصام بين المؤتمرين (الشعبي والوطني).
وقد كان لحضور الدكتور “غازي صلاح الدين” زعيم (حزب الإصلاح) حضوره أيضاً مع آخرين- ربما– إلا أن الغياب اللافت كان هو حسب الكاميرا غياب الأستاذ “أبو عيسى” رئيس ما يقال عليه (قوى الإجماع الوطني) التي لا ترى لرحيل نظام الإنقاذ الوطني بديلاً. وغياب الحزب الشيوعي السوداني وزعاماته كان لافتاً أيضاً، كما أن حضور (آل الميرغني) ورموز حزبهم (الاتحادي – الأصل) كان لافتاً هو الآخر.
ذلك الحضور اللافت المشار إليه– ربما- كان هو السبب في أن يأتي خطاب السيد الرئيس ذلك المساء على غير ما كان متوقعاً، أو مشحوناً بالمفاجآت والقرارات الكبيرة التي منها– كما أُشيع وكتب البعض– تعليق الدستور وحل البرلمان وما إلى ذلك. فللمؤتمر الوطني وثيقة إصلاح طرحها على الأحزاب الأخرى، معارضة ومشاركة في السلطة. وهنا يتعين عليه أن ينتظر ما يصدر عن ذلك الحوار، وعليه أن يطرح تلك الوثيقة أيضاً على الرأي العام وجمهور حزبه الذي أزعجه ما رشح في الصحف وعلى الألسن والمواقع الإلكترونية من تفاصيل زعم أنها متوقعة في ذلك الخطاب ذي المفاجآت.
الأحزاب المعارضة والأخرى، وقد طرحت عليها وثيقة للإصلاح من المؤتمر الوطني، لا تود أن ترى القرارات تصدر من الطرف المبادر وليس الكيان الذي شكلته الأحزاب أو ستشكله للحوار ومخرجاته. وهذا أيضاً دعا الحزب الحاكم ممثلاً في رئيسه إلى مخاطبة الرأي العام بمبادئ حزبه ومرئياته للوثبة الإصلاحية المتوقعة.
وعليه، فإن لخروج خطاب السيد الرئيس ووصوله إلى الرأي العام (سامعين ومشاهدين) له ما يبرره ويأتي به خالياً من المفاجآت وغيرها مما تمناه واشتهاه البعض أو ذهبوا لأبعد منه، وهو إعلان السيد الرئيس تنحيه عن السلطة وإفساح المجال لنائبه الأول، أو انتخابات رئاسية مبكرة.
الخطاب- على كل حال– وهو طويل ومرتب وهادئ، وكان خالياً من دواعي الهتاف والتصفيق، كان عبارة عن مؤشرات لرؤية ومبادئ للحوار في الشأن القومي الشامل، إذ كما قال السيد الرئيس: (السودان يستشرف مرحلة جديدة وهو الذي ظل لستين عاماً تفلت الفرص من بين يديه). وعليه– كما قال أيضاً: (الوثبة المتوقعة لا ينبغي أن تكون حزبية وإنما بانطلاقة أوسع يكون فيها الولاء للوطن وليس الأحزاب).
فالمطلوب من السودانيين– حسب ما جاء في الخطاب:
} إعلاء الوطن على كل ولاء حزبي.
} ترتيب الأمور بفكر صادق.
} والحوار بين الحكومة وكل القوى السياسية والحزبية والمجتمعية.
إنها مبادئ شفعها السيد الرئيس بإعطاء السلام أولوية. وهنا يبدأ المؤتمر الوطني بنفسه، لأن القتال ليس إلا وسيلة لرد المعتدي.. وعلى الحركات المسلحة أن تدخل في الحوار وتلقي السلاح.
وتناول الخطاب قضايا أخرى كثيرة تهم المواطن السوداني، وخص منها بالذكر (مشاكل الاقتصاد) التي قال إنها كثيرة وأشهرها الفقر.. والخروج من تلك المشكلات بما فيها الفقر، يكون من خلال الإصلاح في السياسات الاقتصادية عبر مراجعة الأجهزة ورفع كفاءتها، مع تأسيس وكالة للتخطيط الاقتصادي، والحرب على العصبية والعنصرية التي هي أس فتق النسيج الاجتماعي والسبب في عدم الاستقرار.
وتطرق السيد الرئيس في خطابه كذلك إلى العلاقات الخارجية، التي لها تأثيرها ومردودها السالب والإيجابي على البلاد، شأن الإعلام الذي قوامه حرية التعبير والالتزام بما يناسبها من مقومات، فللحرية ثمنها ومقابلها الذي لابد منه.
لقد عمر الخطاب تلك الليلة بما هو مطلوب لحوار وطني قومي سوداني، تكون مخرجاته هي التي تفي بمتطلبات الوثبة أو المرحلة الجديدة التي تستشرفها البلاد، إذ إن كانت الأحزاب المعارضة في السابق تشكو من عدم الثقة في الحوار مع الحزب الحاكم، فإنه هذه المرة يعلن الرغبة في الحوار ومبادئه ورؤاه أمام الرأي العام والأجهزة الإعلامية وجمهور حزبه الحاكم بالضرورة والنتيجة. والأحزاب المعارضة هي الأخرى أعطت الحزب الحاكم بحضور رموزها لخطاب السيد الرئيس مساء (الاثنين) الماضي، وقد سجلت أجهزة الإعلام المرئي والمسموع ذلك، أعطته شهادة (حسن ثقة) أو حسن استقبال لفكرة الحوار الوطني حول الوثبة المرتجاة. ولابد أن هذه الخطوة السياسية ستصب خيراً وبركة على السلطة وغير ذلك على المعارضة التي ظلت ترفع شعار إسقاط النظام وعدم التفاهم معه.
لقد كان حزب المؤتمر الشعبي عبر أمينه السياسي “كمال عمر” هو الأقرب إلى تجمع السيد “فاروق أبو عيسى” المعرف بـ(قوى الإجماع الوطني). والآن، وبحضور الدكتور “الترابي” الأمين العام للحزب تلك المناسبة، يكون التجمع قد فقد الحزب السياسي الثالث بعد الاتحادي بفروعه ومكوناته المختلفة وحزب الأمة القومي الذي بينه وبين قوى الإجماع الوطني ورئيسها السيد “أبو عيسى” ما بينهما.
فماذا يفعل تجمع اليسار (الماركسي) والواقع السياسي أمامه قد تغير على المستوى الداخلي ومستوى جمهورية جنوب السودان، التي كانت الحاضن الأول لجماعات التمرد المسلحة والكيانات المهددة للسلام والاستقرار في جمهورية السودان.. والمقصود هنا (الجبهة الثورية) وقطاع الشمال.. فهؤلاء جميعاً بعد الأحداث الأخيرة في دولة الجنوب اهتزت الأرض من تحت أرجلهم..؟!
الخطاب خلا من المفاجآت المطلوبة والمرغوبة من البعض إعلامياً وسياسياً، غير أن المفاجأة التي نتجت عن الخطاب كانت ما ذكرنا أعلاه– أي في دعم الحزب الحاكم وإصابة المعارضة اليسارية بـ(الفركشة) و (الغلغلة)، وربما العطل الدائم والمستقر.