باحثون ومختصون في التراث ينقبون عن حضارة «كرمة»
أطلق باحثون في الحضارة والتراث الإنساني نداء للمحافظة على حضارة “كرمة” بشمال البلاد أقدم وأعرق حضارة في وادي النيل وإفريقيا، وجاء ذلك في منتدى نظم بـ(مركز راشد دياب للفنون) تحت عنوان (نداء الحضارة.. كرمة) وسط حضور نوعي من المثقفين والمهتمين في مجال التراث النوبي وسياح أجانب، وخلال المنتدى أكد المتحدثون أن جزءاً كبيراً من الحضارة “كرمة” لم يكتشف بعد، وأن الحفريات التي تجرى بالمنطقة ظلت تحقق اكتشافات جديدة في كل يوم يمر.
الإنسان والماشية علاقة حياة مشتركة
في البداية أكد بروفيسور “علي عثمان محمد صالح” المتخصص في الحضارة الإنسانية أن الدراسات المستمرة حول الدلائل الأثرية واللغوية تشير إلى وجود الحضارة النوبية منذ 2500 عام قبل الميلاد، وأن هذه الحضارة استطاعت عبر التاريخ أن تحتفظ بلغتها ونفس الأجناس الذين أسسوها، والاكتشافات الحديثة أظهرت أن العلاقة بين الإنسان والماشية في هذه المنطقة كانت علاقة حياة مشتركة، فيها الكثير من التفاصيل التي تحتاج إلى الدراسات خصوصاً بعد ظهور دلائل قاطعة تثبت بأن “مروي” قامت كإمارة ثم تحولت إلى دولة بتأثير مباشر من “كرمة”. موضحاً أن “كرمة” هي أهم حضارة نوبية، والحفريات أثبتت أنها من زمن العصر الحجري، وأضاف: جبل (نوري) ثبت أن النشاط التاريخي فيه لم يبدأ إلا في العام (1500) قبل الميلاد، وهذا الاكتشاف كشف عن غزو الفراعنة المصريين لبلاد النوبة، فضلاً عن النشاط التجاري والعسكري للفراعنة بالمنطقة. وأوضح بروفيسور “علي” أن عالم الآثار “سنسرت” اكتشف النقوش النوبية وقام بدراستها وتحليلها ليتضح له أن اللسان النوبي يعود إلى ما قبل (5) آلاف سنة قبل الميلاد، وأن ترجمة كلمة (نوري) تعني الفاصل الجنوبي الذي يفصل مصر ومنطقة الشلال الأول والثاني.
ملوك “كرمة” داخل متحف ايطالي
(نداء الحضارة.. كرمة) كشف عن حقائق جديدة في منطقة الشلال الثاني بأرض المحس، حيث توجد فيها آثار تعود إلى ما قبل مملكة “كرمة” أي منذ العصر الحجري القديم، ونبه «صالح» إلى أن جبل (سبو) يحتوي على ثلاث آلاف رسمة على الصخور، وأن المجموعات النوبية التي كانت تسكن في المنطقة الممتدة من جبل (ايقرو) جنوباً حتى الشلال الثالث كانت تتسم بالاستقرار وتكوين دولة (الإمارات النوبية).
وعن اقتصاد حضارة “كرمة” ذكر بروف “علي عثمان” أن اقتصادها اعتمد على جزئين نشاط زراعي على النيل وآخر رعوي في منطقة الصحراء الكبرى، وأوضح أن الزراعة والرعي في ذلك الوقت شكلا اقتصاداً قوياً ارتكزت عليه ممالك بأثرها، وأشار إلى أن منطقة (الدفوفة) الغربية بـ”كرمة” كانت سابقاً يتم فيها تتويج الملوك، وكشف أن الفراعنة في مصر كانوا وكلاء للكهنة، وفي نظام الحكم النوبي الملك هو الحاكم بدون تفويض من الكهنة.
ونوه إلى أن رئيس (قسم الآثار) بمتحف فرنسي يدعى “كلود ريليه” كشف أن (50) اسماً من أسماء ملوك “كرمة” موجودة في أحد متاحف ايطاليا.
أقدم استيطان بشري
“د. عبد الرحمن علي محمد”، مدير الهيئة القومية للآثار والمتاحف أكد على الثراء الكبير للولاية الشمالية واحتوائها على آثار قديمة تمتد لأكثر من (1200) سنة.
وقال إن “كرمة” وحدها توجد بها آثار بعمر (300) مليون سنة، واعتبر مدينة “صاي” أقدم استيطان بشري في التاريخ، وأشار إلى أن الدراسات أثبتت أن “كرمة” تعتبر أول مملكة يتم تأسيسها في السودان في الفترة من (2500) إلى (1500) سنة قبل الميلاد، وأنها أقدم مركز حضري وعمراني في إفريقيا، وكان تأثير ملوكها على رعاياهم كبيراً، حيث وجدت في مدافنهم ما يشير إلى ذلك، بالإضافة لما يقارب الـ(4000) رأس من الماشية في كل مقبرة مما يدل على أن هذه المنطقة كانت رعوية، مشيراً إلى أن ملوك “كرمة” كانوا يدفنون في (عنقريب) مزين بـ(ريش النعام) و(الصندل)، كما أكد أن ملوك “كرمة” أول من وجهوا رسالة دبلوماسية إلى ملوك (الهكسوس) للتحالف للقضاء على الفراعنة، لكن الفراعنة حصلوا على الرسالة قبل أن تصل إلى (هكسوس).
وفي سياق حديثه قال دكتور “عبد الرحمن” إن حضارة “كرمة” أضحت جزءاً من التراث العالمي، وحذر من تأثرها بالامتداد العمراني والزراعي، بجانب ارتفاع منسوب المياه الجوفية التي ظهرت أخيراً بالمنطقة بعد إنشاء سد مروي خاصة في بئر (دوكي فيل).
وأشار إلى أنهم استعانوا بخبراء لمعرفة الأثر طويل المدى الذي يقع على منطقة (الدفوفة) ومعالجته، وذكر أن “سد مروي” شكل مسطحاً مائياً كبيراً، وأن العمل جارٍ للمحافظة على “كرمة” باعتبارها واحدة من مكونات الثقافة والسياحة.
وأضاف أستاذ التاريخ بـ(جامعة الخرطوم) “د. عمر حميدة” أن تأثير حضارة “كرمة” على كل الأراضي السودانية من خلال العادات والتقاليد المتشابهة خصوصاً في طقوس الأفراح والأتراح وبعض التقاليد الاجتماعية الأخرى.
الأستاذ “سمير بكاب” الباحث في (اللغة النوبية) شن هجوماً على الذين يزعمون بأن النوبية هي لهجة وليست لغة وقال إن كل الكشوف أثبتت أن النوبية لغة وقد وجدت على الجدران والمدافن والمقتنيات الأثرية.
سد منافذ تسرب الآثار السودانية
التشكيلي “د. راشد دياب” دعا قيادات الدولة للاهتمام بالآثار وكل التراث الإنساني المعبر عن حضارتنا، وناشد جهات الاختصاص بأن تعمل على سد كل المنافذ التي يمكن أن تتسرب عبرها الآثار السودانية العظيمة، وأكد بأن المركز سيظل يبحث عن مثل هذه المناطق الأثرية المهمة في تاريخ السودان.
المهندسة “نادية صبار” مصممة المتحف النوبي والمشاركة في تصميم (الدفوفة) قالت إن فكرة إنشاء المجمع نبعت من الحضارة النوبية القديمة لتلك المنطقة القديمة للترويج لها داخلياً وخارجياً خاصة وأنها الأعرق في إفريقيا ووادي النيل، ومجمع حضارات “كرمة” يهدف إلى حفظ المقتنيات المستخرجة من الحفريات بالمنطقة، وأن المشروع برعاية وزير الدفاع الفريق ركن مهندس “عبد الرحيم محمد حسين” وتم افتتاحه على يد رئيس الجمهورية المشير “عمر البشير”، وأن العمل جارٍ في إنشاء مكتبة الكترونية تجمع كل حضارات العالم ومركز للدراسات والبحوث النوبية.
فرقة (الفنون النوبية) قدمت مجموعة من الأغاني والرقصات النوبية أبرزت من خلالها تراث وثقافة المنطقة، كما شارك الليلة المطرب “عبد الهادي محجوب”.
الندوة شهدت نقاشاً ومداخلات ثرة من المهتمين ورواد المنتدى، حيث تواثق جميعهم على ضرورة الاهتمام بحضارة “كرمة” واستمرار اكتشاف جوانبها المخفية.