الديوان

العم «محمد عقار» يروي مغامراته في كشف الجريمة:

العم «محمد عبد الله عقار» أحد أبرز قصاصي الأثر بولاية الجزيرة، جلست إليه (المجهر) في دردشة عن كواليس المهنة التي توارثها عن والده والذي كان يتقاضى أجراً حكومياً باعتباره موظفاً رسمياً يعمل مع الإنجليز إبان الاستعمار.
العم «محمد عقار» الذي يقيم بقرية «كاب الجداد» لم تقل صولاته وجولاته مع اللصوص عن والده، وقد أتحفنا وهو يقص علينا بعضاً من المواقف والحكايات وقد لاحظنا خلالها أنه لم يواجه عقبة حتى من أولئك اللصوص الذين حاولوا وضع المتاريس في طريقه وتضليله، فقد قهر كل تلك الحيل وأمسك بهم في مهارة يحسد عليها، كل ذلك بعد تلقيه أوامر رسمية من الشرطة التي ترافقه في قطع الفيافي والأنهار (ألم أقل لكم إنه يقتفي الأثر حتى في البحر).
ورغم أن الأيام أوهنت عظمه، إلا أنه ما زال وإلى الآن يساعد كل من يستجير به ويبادر لمجالس الجودية، ليس ذلك فحسب بل إنه يحفظ بصمة أي قدم أو حذاء تطأ الأرض.. لنتركه في هذه المساحة يحكي لنا عن تلك المغامرات التي خاضها منذ عهد الإنجليز وإلى الآن.
رحلة البقرة من «كاب الجداد» للخرطوم
وبدارجة محببة لا نفسدها بترقية التعبير، نستمع إليه على سليقته، قال العم «محمد عقار» الذي شب إلى أن صار شاباً في منطقة «كاب الجداد»: أتعلمت قص الأثر وأنا صغير، وكنت لما أرجع من الحواشات في الخلاء بعرف درب أي زول بلقاه قدامي، وبرضو استفدت من والدي «عقار» لأني كنت بطلع طوالي معاه المأموريات لأنه كان شغال مع الإنجليز وبيأخذ ماهية، وعندو حواشات يشرف عليها ولما يحتاجوا ليهو بنادوه لأي سرقة تحصل في المنطقة والمناطق المجاورة (وشرع العم «محمد عقار» يحكي واحدة من قصص والده في هذا المضمار)، في سنة 1948م تقريبا، جاء حرامي من الخرطوم لمنطقة «كاب الجداد» وهو راكب «جمل» ووصل السرايا وهي حوالي أتنين كيلو من المنطقة وسرق بقرة (الخواجة) بالليل وخلى جناها قبلو، والصباح حوالي الساعة تمانية صباحاً جاء للوالد وطلب مساعدته، وقال ليهو أجهز لحدي ما أمشي أجيب الشرطة، وطبعاً زمان المركز بتاع الشرطة كان في «الحصاحيصا» وفرع في «اللعوتة» وأفراد شرطة موزعين في الحلّال، آها قام ركب معاهم مشوا السرايا وأنا معاهم، وبعد داك شالوا الدرب من الحفير بتاع الترع وشقوا الحواشات، ومن الساعة تمانية لحدي الساعة واحدة حتى مسكوا درب البقرة ومشوا معاهو لحدي ما وصلوا «السميت» الساعة ستة، بعدها الخواجة قال راجع لأنو البنزين خلص وإنتو واصلوا برجليكم، وبقينا مبارين الأثر حتى منطقة (القوز) بالخرطوم وتحديداً في منطقة «أبو حمامة» وهناك رقدوا، السارق الصباح مسك درب «الرميلة» بتحت مع البحر وراح المقرن قاصد يقطع لأم درمان، ولما وصل لمكان منتزه المقرن الحالي ووقتها كان محلو كشك صغير يبيع الشاي والأكل، لقى الكبري مقفول ما قطع، اضطر يودي البقرة السواقي مع بقية البقر، خلاها معاهن وروح رقد بالجمل في الشدر والكتر، وفي الحتة دي قبضنا عليهو ولقينا «جربان» الجمل مليانات سكر وشاي وبن وسجائر وعسل ورز (كان مجيهة تب) وهو ذاتو لابس كويس تشوفيه ما تقولي عليهو حرامي، بعد داك اعترف، وجاء (الخواجة) والست «زوجته» شايلة بندقيتها وقالوا استخفافاً بالحرامي «أدوهو نجمة» ده حرامي كبير وحريف.
بعد داك قطعوا للبقرة تذكرة وركبوها القطر من الشجرة ونزلت محطة «المسيد» في الجزيرة ومن هناك انتظروها وودوها «كاب الجداد» واستقبلوها هناك استقبال كبير (ثم علق العم عبد الله بالله شفتي (الخواجات) ديل بحترموا الحيوانات كيف؟!)
قصة اللص الذي توارى بالثرى!!
ومضى العم «محمد عقار» بقوله: عائلتنا كلها بتقص الأثر حتى نسوانا، وأنا خلال عملي ما اكتفيت بـ«كاب الجداد» اشتغلت في «المسلمية» والحصاحيصا» و«المعيلق» و»الكاملين، الكلام ده من زمن الإنجليز ولحدي بعد الاستقلال. وبالنسبة لبداية العملية بيجي المُبلغ للشرطة يقول إتسرق مني الشيء الفلاني، يأخدوا منو الأوصاف وينادوني أقوم معاهم بالعربية وأركب بالطرف وأمسك الدرب وأوجّههم، حتى كان قطع البحر بقطع معاهو، وفي حالة لم أجده وقتها لو لاقيتو بعد سنة بعرفو.
وقصة أخرى للعم «محمد عقار» تجلت فيها فراسته وهو يقتفي الأثر وينبش اللص، قال: مرة وفي شهر سبعة جونا أتنين من قبيلة معينة لرش البيوت، واحد من البيوت الدخلوها عجبهم شديد بعد تلاتة أيام جوا سرقوه شالوا دهب وملابس وأخدوه بفوق للسكة الحديد ومسكوا درب القطر لحدي قنطرة «ود أمي» واتجهوا نحو الصعيد مروراً بمكتب «كاب الجداد» وحتى حلة «تويس» وصلوها عشرة صباحاً ونحن وصلنا على أطناشر، دخلوا بيت شربوا فيه شاي ولما قالوا ليهم البوليس والقصاص وصلوا قاموا جارين، نحن وصلنا لقينا عقاب الشاي، «الأمباشي» سأل ست البيت منهم، قالت ما عارفاهم قبلوا على وين، المهم نحن لقينا الدرب وباريناهو وعثرنا على بقجة الملابس مربوطة شلناها وبقينا قاصين الأثر لحدي ما وصلنا لغرفة عبارة عن جزارة، واحد دخل فيها وقفلها عليهو والتاني مسك درب أبو عشرين ودخل الحواشات وفي مكان المخصوص (مساحة محروتة) حفر ليهو حفرة ودفن روحو فيها، ونحن واصلنا لحدي آخر الحواشة عاينا في كل الاتجاهات ونقبنا حتى في التقاوى وحزم القصب بدون فائدة، بعدها عدنا أدراجنا في نفس الطريق، فلاحظت أثر أصابعه على الأرض بمحاذاة حفرة والنفس طالع ونازل على التراب، قلت للعسكري الزول ده مدفون هنا، قال لي ما أظن، شلت العصاية وضربتو بيها طوالي قام ونفض التراب منو، وفوراً قام العسكري بالقبض عليه وتوثيقه، ثم رجعنا واقتحمنا الجزارة وألقينا القبض على رفيقه.
الحيل لم تفلح في هروب اللصوص من قبضة العم «عقار»
سألنا العم «محمد عقار» عن العقوبة في تلك الفترة، فقال: كانت عبارة عن الحبس لمدة سنة أو ستة أشهر وقبلها يخضعونهم لضرب مبرح.
ويمضى في سرده: بعض اللصوص القدامى يستخدمون حيلاً للتضليل والتمويه، خاصة في عهد قصاصي الأثر كأن يلبسوا الحذاء بالمقلوب أو يعكسوا خطواتهم حتى لا يعرف أن كان رايح أو غادي، وفي هذا المنحى سألنا العم «محمد» فأورد واحدة من هذه الحيل التي لا تنطلي عليه وشرع يحكي: في واحد معروف في حلة (الرِبع) بسرقة البيوت لكن بسرق الحلّال البعاد، يوم جوا ناس (الرِبع) ومعاهم الشرطة حوالي عشرة بالليل عشان أتقصى عن سرقة، ولما تبعت الدرب لقيت أثر بتاع علب صلصة مقدودة أتاري كان خاتي طرف أصابعه ورابطه بحبل من قدام، مشى بيها ولما وصل البيارة لقى الناس كتار (ملصن)، ومع ذلك قدرنا نوصل ليهو وقبضناهو وأدوه أربع سنوات بعدها تاب توبة نصوح وصاحبني، وقال لي أنا بسرق من مدة طويلة ما في زول عرفني، لكن تبت على يدك.
قصاصو الأثر يضاهون الكلب البوليسي..
وبمرور السنوات قل التعاطي مع قصاصي الأثر لاكتشاف معينات حديثة كالمعامل الجنائية، واستخدام الكلاب البوليسية، ومع ذلك لم ينتفِ التعامل معهم البتة وما زالت هناك جهات ومواقف تستدعي تدخلهم والحاجة إلى خبراتهم الفطرية، كما فعلت الإدارة المركزية لمكافحة الآفات بوزارة الزراعة واستصلاح الأراضي عندما استعانت بقصاصي الأثر خلال خوضها لمعركة شرسة للقضاء على حوريات الجراد بالمناطق الحدودية الجنوبية الملاصقة لشمال غرب السودان، والتي تعتبر مناطق جبلية يصعب فيها التحرك بدون قصاص أثر. وذات المناطق تلجأ إليهم عند ضياع سعيتهم أو سرقتها، ورغم صعوبة التقصي في الجبال والكثبان الرملية التي يضيع فيها الأثر، لكن حيلة أخرى يلجأ إليها هؤلاء بتتبع الأشجار التي تقف عندها (البهائم) وتتزود منها بقضمها، وتكون هذه الأوراق بمثابة خيط بتتبعه يصل القصاصون لهدفهم.
ومن هذا المنطلق سألنا العم «عقار» عن ما إذا كان يمارس نشاطه إلى الآن؟ فرد بأن الصحة ما عادت كما الأول، لكن ناس الحلة ما بخلوني وحتى الشرطة بتجيب معاها الكلب البوليسي وبنطلع كلنا مع بعض والقرينة الأنا بمسكها يؤمن عليها الكلب البوليسي والسرقة الزمن ده تطورت لعربات، وقبل فترة بسيطة إتسرقت عربية وقصينا أثرها لقيناها مرقت في «ود راوة» وبعد وساطة الجودية اللصوص قالوا إلا يدوهم سبعة ملايين جنيه، (250) منها للجودية «حق القعدة»، ثم زاد: في عربات كتيرة إتسرقت مرات بنلقاها في «حلفا».
قصاص (الأثر) أو (الاتر) كما يحلو للسودانيين تسميته، شخصية لا تخطئها العين وهي تقوم بالتقصي في أثر مجرم هارب أو لص تسلل إلى منزل، فقد شهدت الحقب الفائتة لهم بجولات وصولات مع اللصوص وقطاع الطرق و(الهمباتة)، خاصة في الصحارى والبوادي، ولا غرو في أن يتمتع هؤلاء بهبة الذكاء الفطري وسرعة البديهة والفراسة، فقد كانت تلك الطبيعة البكر مصدراً لشخصية قصاص (الاتر).
ستة عشر قصاصاً حظوا بشهرة عالية في عدد من بقاع السودان شماله وشرقه وغربه ووسطه، وذاع صيت بعضهم على رأسهم الأم درماني «عمر القصاص»، وتحولت هذه المهارة في ما بعد لسمة متوارثة لم تفت حتى عن نسائهم، ذلك لاصطحابهن أثناء التقصي أو اكتسابها عبر الاستماع.
ولأن (القصاص) وبمهارته الفائقة يساعد وبنسبة كبيرة في اقتناص اللصوص وهو يقتضي الأثر حتى الحيل التي يلجأ إليها اللصوص لتمويه أثرهم، فقد اعتمدت عليهم الجهات الشرطية في ذلك الوقت وإلى الآن في بعض الجرائم المعقدة، حتى بعد استعانتهم بالكلاب البوليسية المستحدثة.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية