نهاية مواطن
كان قنوعاً جداً.. ويطبق المثل القائل “مد كراعك على قدر لحافك” بحذافيره.. لم يكن ينظر أبعد من قدميه.. ولا يعنيه كثيراً ما يملكه الآخرون.. فسعادته الحقيقية كانت في قناعته وبساطته.
ظل المواطن “س” وفياً لواقعه الاجتماعي.. ومخلصاً للشريحة الاجتماعية التي ينتمي إليها.. ومنذ أن تخرج من الجامعة وتوظف براتب وضيع يتسلمه نهاية كل شهر أو بدايته أو نصفه أو الشهر الذي يليه “حسب التساهيل” وهو يكيف أوضاعه طبقاً لميزانيته.. أما مبدأه الذي لم يغيره قط فهو “أن أموت ولا أستدين من أحد” لكن “س” وشأنه شأن سائر العباد كان لزاماً عليه أن يكمل نصف دينه.. فقد قال لنفسه “ألا يكفي أنني بلغت الخامسة والثلاثين من العمر لقد آن الأوان إذن..” هكذا ظل يلح عليه أيضاً كل من حوله وبدأت رحلة المواطن “س” في البحث عن زوجة المستقبل ليكتشف أنه وطوال هذه السنوات التي مضت لم يتعرف بشكل لصيق على امرأة قط..!
وفي الحي الموازي لـ”الحلة” الصغيرة التي يسكن فيها حيث لا يفصل بينهما سوى شارع أسفلتي وجد المواطن “س” نفسه يتجول ذات مرة في ذاك الحي الراقي.. وفجأة وقعت عيناه على فتاة خطفت قلبه من أول نظرة..
وظل يراقبها وهي تدخل أحد الفلل الأنيقة!
وحين هم بالعودة إلى حلته الفقيرة وجدها ترسل له نظرة إعجاب من فوق شرفة غرفتها التي تطل على الشارع.. فلم يصدق نفسه وهرول مسرعاً من حيث أتى!
ليلتها لم ينم.. وظل يعد نجوم السماء وهو على فراشه في حوش بيتهم الطيني المتواضع.. وحين أغمض عينيه لينام جاؤه طيفها كحلم وردي هو الأول من نوعه الذي يزوره بهذه الرقة واللطافة والنعومة..!
ظل ساهماً طوال صباح ونهار اليوم التالي ولاحظ عليه زملاء العمل هذا الانشغال الغير المعهود فراحوا يطلقون تكهناتهم والتي أصاب بعضها.. فالمواطن “س” تحول فجأة إلى عاشق كبير لقد وقع في مصيدة الحب من أول نظرة.
تكررت زيارة “س” للحي الراقي لكنه لم يصادفها مرة أخرى.. رغم وقوفه أمام “الفيلا” التي تسكنها لساعات طوال.. وذات مرة لمحها وهي تخرج من الباب.. وحاول أن يهرب بجلده.. غير أن قدميه خانتاه فلم يحرك ساكناً!
رمقته من على البعد.. وأكدت له مجدداً على نظرتها الآسرة تلك.. فابتسم وأسرع منصرفاً.. ليأتي في اليوم التالي مباشرة مصطحباً عائلته طالباً يدها الكريمة!
ورغم الفوارق الاجتماعية لكن مالكة قلبه مارست صمتاً إيجابياً حين سألها والدها إن كانت تريده زوجاً لها.. ولأن السكوت علامة الرضا فقد كانت الموافقة وتكفّل أبوها بكل شيء..
وانتقل المواطن “س” بقدرة قادر للعيش الكريم والآمن في فيلا عائلة زوجته.. ومرّ شهر العسل كحلم من الأحلام النادرة في حياة البسطاء!
وبعد أن كان المواطن “س” من “الناس اللي تحت” أصبح من “الناس الفوق” ترك وظيفته المتواضعة والتحق بشركة أبو النسب وفي فترة زمنية قصيرة أصبح يشار إليه بالبنان، هو نفسه لم يكن يصدق هذه التحولات السريعة في حياته التي كانت على هامش ضئيل من هذه الدنيا العجيبة!
وفي لحظة ما.. اقتربت النهاية والتي يرويها المواطن “س” ضمن مذكراته التي لم يطلع عليها أحد بعد.. فقد كانت العصمة في يدها.. وهذا هو شرطها الأوحد في تلك الزيجة الأشبه بالحلم.. وهو شرط لم يعره وقتها انتباهاً.. إلى أن جاء اليوم الذي مارست عليه هذا الشرط.. فرمت عليه الطلاق البين!
ويروي المواطن “س” في مذكراته كيف كان خروجه من الجنة إلى النار حزيناً ومؤلماً.. تلك الجنة التي لم يمكث فيها سوى أشهر قليلة ترك بسببها أسرته وحيه الفقير ووظيفته، وها هو الآن على قارعة طريق الحي الراقي.. لا يملك وسيلة تدخله إلى الجنة.. ولا طريقة تعود به إلى جحيمه الذي تركه أو تنكر له.. ذلك الجحيم الذي تأكد له الآن أنه كان متصالحاً معه وقنوعاً بتعاسته.. فالفقر أهون من أن يطرد هكذا، والحلة الفقيرة كانت أكثر رحابة وحفاوة وحناناً من الفيلا الفارهة والزوجة التي لم تتورع في خلع زوجها لمجرد أنها وكما قالت بالحرف الواحد “لم تعد تطيق العيش معه.. فهو ما زال ابن بيئته الوضيعة ويفكر بطريقة مخالفة”..!
لم تكن تلك نظرة حب أولى بل كانت نظرة شفقة.. كتبت النهاية السريعة للمواطن “س”.. قلت للمواطن “س” وهو يطلعني على مذكراته التي لا أظن أنها سترى النور قلت له أن قصتك التي تريد أن تقول أنها تحكي نهايتك ربما تصلح لأن تكون بداية لمشروع فيلم أو مسلسل درامي.. فنموذجك قد لا يشبه الواقع كثيراً.. على الأقل من حيث التحولات السريعة في البداية والنهاية، ومن حيث إن الذي يفصل بين الحي الراقي والحي الآخر الفقير مجرد شارع أسفلتي.