مشاعر محايدة..!!
الفرحة لن تستمر طويلاً ولا الحزن أيضاً.. ومن يضحك كثيراً حتماً سيبكي كثيراً وربما العكس كما سار المثل.. ولأن (الناصح) يقول: (أسمع كلام الببكيك وما تسمع كلام البضحكك)، فإن معادلات الفرح والحزن أو الضحك والبكاء لا يوجد سقف موضوعي لها.. ثمة أناس لا تفارق الابتسامة وجوههم أبداً حتى في أقسى لحظات الحزن والتعاسة.. وعلى نقيضهم تماماً هناك من يرتسم على وجوههم العبوس، (تكشيرة) أشبه بالماركة المسجلة.. ورغم أن المنطقي هو أن تعبر ملامح البشر عن حالتهم النفسية ومزاجهم العام، لكن ذلك ليس بقاعدة مطلقة.. فالتناقض هو سمة شعورية منها الداخلي الذي لا يعرفه إلا صاحبه، ومنها الخارجي الذي قد يظهر المخفي ولكن ليس في كل الأحوال طبعاً..!
أما أغرب الوجوه جميعاً فهي تلك (الجامدة) التي لا تعبر عن شيء على الإطلاق.. كأنها عبارة عن (ماسك) أو قناع ثقيل.. وأصحاب هذه الوجوه يملكون قدرة خارقة على إخفاء حالتهم النفسية وطمس ملامح الحزن والفرح.. إنهم لا يبتسمون ولا يضحكون ولا يبكون.. ولو ظللنا نبحلق في وجوههم زمناً سنجدهم كما هم حتى لو تجاوزوا هذه الإطلالة الحديدية ببعض الإشارات والإيماءات الخفيفة والعابرة التي لا تستطيع أن تمكث إلا لثوانٍ معدودات لا تغير من الوجه (الثابت) في قليل أو كثير..!
وإذا كانت الأعين ظلت دائماً تفضح أصحابها، لأنها تفرح وتحزن وتعشق، فإن ثمة أعين أيضاً لا تكشف شيئاً خلفها.. مجرد بياض وسواد يؤدي مهام الرؤية البصرية وليس أبعد من ذلك.. وهي حالات محدودة على أية حال.. حيث معظم (الأعين) لها مقولاتها الصامتة، وهناك أناس (ماهرون) جداً في قراءتها وفهم مراميها ومعرفة أحوال أصحابها الوجدانية..!
وبالأمس القريب جالسني أحد الأصدقاء وظل كعادته يمارس طقوسه المفضلة في تفسير وتأويل حالتي النفسية والمزاجية.. وفاجأني على غير العادة بالقول (لأول مرة ألتقيك وأحدق في وجهك وعينيك دون أن أفهم شيئاً.. وجهك اليوم يبدو جامداً.. لا فرحاً ولا حزيناً وعيناك صامتتان.. لا أكاد أقرأ حرفاً واحداً فيهما.. لقد فقدت قدرتي على معرفة مزاجك العام أيها الصديق).
قلت له: (هذا أفضل على أية حال.. فالتعبيرات والمشاعر المحايدة تمنحنا مساحة للخصوصية والاحتفاظ بأسرارنا.. ومع ذلك سأعترف لك يا عزيزي بأنني أمر هذه الأيام بنقطة تحول مهمة في حياتي، حيث أكاد أن أجزم بعد كل هذه السنوات أنني توصلت إلى جزء ضئيل جداً من الحقيقة التي ظللت أبحث عنها.. وهي أنه ليس هناك ما يستحق أن نفرح أو نحزن عليه أكثر مما ينبغي.. لقد بدأت أرى الأمور على طبيعتها وبحجمها الطبيعي.. دون تضخيم أو تفخيم.. حين نفعل ذلك، لن تصبح وجوهنا مرتعاً لفضول الآخرين وتأويلاتهم وتخميناتهم، لأنها ستكون وجوهاً صافية وخالية من التوتر والرهق.. و.. الحساسية الزائدة.. لا شيء أيها الصديق يستحق كل هذا الفرح.. كل هذا الحزن!