أخبار

هذا ليس الصحفي..!!

“محفوظ عجب” لم يكن الأنموذج الدرامي الوحيد للصحفي المتناقض والغريب الأطوار، فهناك نماذج كثيرة للصحفي تطرحها المسلسلات والأفلام، وهي في مجملها تفتعل وجود هذه الشخصية حتى تحقق أكبر قدر من التشويق والإثارة أو حتى الكوميديا والضحك دون أن تنشغل بالغوص الحقيقي في أعماق هذه الشخصية.. والإشكالية فيما يبدو لا تقتصر على الدراما العربية فحسب، وإنما نجدها حتى في الدراما الأمريكية والغربية وخاصة تلك التي تستدعي شخصية الصحفي (المحقق) الذي يقوم بأدوار (مغامراتية) بحثاً عن الحقائق المثيرة دون أن يمنعه ذلك من استخدام أي الوسائل حتى ركوب الطائرات المقاتلة واستخدام الأسلحة النارية، وهي حالة قابلة للتضخم حينما يكون أنموذج الصحفي هو لـ(مراسل حربي)، فوقتها يتحول هذا الأنموذج إلى (سوبر مان) من سلالة خارقة ونادرة جداً!! وبعيداً عن الاستعراض المجاني لعضلات الصحفيين في السينما الأمريكية قبل استعراض الإنسان الذي بداخلهم، فإن الأفلام والمسلسلات العربية تجيد- بامتياز- استعراض وجوه أخرى غريبة للصحفي مقصورة على أنه شخص مشبع بالفضول ويحشر أنفه فيما لا يعنيه، ويستخدم كل (السبل) للوصول إلى هدفه، وهو فوق ذلك لا يكتم (سراً) ولا يستر (فضيحة)، ويعرف كيف يخلق من (الحبة قبة)، وكيف يلوي عنق الحقائق ويحول الخيال إلى واقع والواقع إلى خيال.
وإذا كانت هذه هي الملامح الغالبة على شخصية الصحفي في الدراما العربية، فهناك ملامح أخرى كثيرة تضاف قسراً لهذه الشخصية، فتجدها أحياناً (ثقيلة الدم) وأحياناً أخرى (هزلية) إلى حد السخف، كما يمكن أن تجدها شخصية (شريرة) و(عدوانية) أو (منفصمة) و(منطوية).. وهو تنوع نفسي ومزاجي يمكن تمريره من مدخل أن (الصحفي) في نهاية الأمر هو بشر، وبالتالي فالبشر في الواقع والدراما معاً أشكال وألوان متناقضة ومتباينة، ولكن حينما تصبح المسألة بمعنى (التأطير) و (التنميط) لهذه الشخصية (درامياً) فحينها تصبح مسألة (ممجوجة) وخارجة عن الذوق والمنطق السليمين!!
لقد أصبحت العديد من نماذج الدراما العربية بما فيها السودانية بالطبع واقعة في فخ (النمطية) السيئ، وهي تؤسس للشخصيات التي تستلهمها فهناك شخصية معلم اللغة العربية المفترى عليها دائماً، وهناك شخصية (الطبيب النفسي) المبالغ فيها دائماً، وهو تكرار يعتمد على اجترار نسخ درامية مكررة لا يثري هذه الشخصيات (إنسانياً) وإنما يجردها من كل شيء حتى الأدوار الحياتية التي تقوم بها.. ولعل شخصية الصحفي هي حلقة أخرى في مسلسل هذا المسخ المتكرر والمشوه، التي تتعدد زوايا النظر إليها وتلتقي غالباً في نقطة واحدة، تؤكد أن (الصحفي) هو شخص فضولي وسبب كل المشاكل والبلاوي التي تحل بشخصيات المسلسلات والأفلام، وكأنه محكوم على هذه المهنة أن تواجه المتاعب حتى من قبل التناول الفني أيضاً!!
والمؤكد أن هذه الصورة (المقلوبة) للصحفي على شاشات التلفزة والسينما تركت آثاراً انطباعية غير سوية لدى جمهور الدراما، ربما يفسر لنا تلك النظرة الخاطئة أحياناً لمن يشتغلون بمهنة الصحافة وعدوى (الحساسية) الزائدة في التعامل معهم، وهو ما جعل مأساة الصحفي مضاعفة ما بين الدراما التي لا تعترف به إلا بالطريقة (الغريبة) التي تنظر بها إليه وما بين التعامل الحياتي اليومي الذي ينظر إليه بعين الدراما نفسها حتى ولو كان لا يصدقها وإنما فقط يستمرئ الاستئناس بفرضياتها وأغاليطها!! إن الصحفي “الدرامي” أنموذج قد يكون موجوداً في الواقع ولكنه لا يمكن أن يكون أنموذجاً (عاماً) و (غالباً) كما لا يمكن أن يكون هذا الأنموذج مؤطراً لأية فلسفة جوهرية وحقيقية في تناول هذه الشخصية التي تحتاج في إضاءاتها إلى ذائقة خاصة ومختلفة، حتى لا يكون تناولها مجرد (تسطيح) واستدعاء لبهارات الدراما ورتوشها ومبالغاتها!! صحيح أن هناك العديد من الأعمال الدرامية احتفت بالصحفي والدور الذي يقوم به، وصحيح أن هناك العديد من الأعمال الدرامية التي تناولت شخصية الصحفي باعتباره بشراً كسائر البشر ولم تجعله أنموذجاً خارجاً عن العادة والمألوف، لكن المؤكد أن الغالب على رؤية التناول الدرامي السائدة هو ذلك (الأنموذج) غريب الأطوار للصحفي، وهي قضية شائكة تضاف إلى القائمة الطويلة لمشاكل الصحفيين في هذا العالم!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية