معاناة المبدعين .. حياة كغناء «برومثيوس»!!
تقول الأسطورة الإغريقية القديمة إن الإله “زيوس” زعيم (الأوليمب) قد عهد إلى زعيم (التيتان) “برومثيوس” مهمة رعاية البشر ليكونوا خدماً للآلهة، ولكن “برومثيوس” بدلاً عن ذلك قام بتعليم البشر المهارات، وقام بسرقة شعلة النار وأعطاها لهم في إشارة للمعرفة والعلم، وهذا ما أغضب “زيوس” عليه، فقام بتقييده إلى صخرة في أعلى الجبل، وكان يأتيه كل يوم نسر ضخم ينهش كبده لتنمو في الصباح كبد أخرى، زيادة في التعذيب ونكاية به، ورغم ذلك كان “برومثيوس” يغني أثناء تعذيبه بصوت جميل لفت انتباه “هيركوليس”، فقام بتخليصه ليواصل الإبداع والغناء والثقافة.. إلى نهاية تلك الأسطورة!!
وقد جسّد تلك المعاناة والألم الشاعر التونسي الشاب “أبو القاسم الشابي” الذي عانى من مرض تضخم عضلة القلب (مايوباثي) والعيوب التخليقية لصمامات القلب ومضاعفاتها، مما جعله موقناً بأنه على موعد مع أجل قريب، ولم يمنعه ذلك من الإبداع والتفاعل مع الحياة بل والزواج والرياضة، وعند دخوله المستشفى بسبب الفشل القلبي وفي سويعات الصباح الأولى أسلم الروح وهو لم يتجاوز الخامسة والعشرين ربيعاً وهو ينشد:
سأعيش رغم الداء والأعداء
كالنسر فوق القمة الشماء
أرنو إلى الشمس المضيئة هازئاً
بالسحب والأمطار والأنواء
وليس ببعيد عن ذلك ما حدث مع الشاعر الشاب الراحل “التيجاني يوسف بشير” الذي عانى هو الآخر من ألم النفس وهو يتمنى الرحيل إلى مصر لتلقي المعرفة ونيل الثقافة والتي ضنّ بها عليه وطنه وأهله، فقال:
نضّر الله وجهها
مستودع الثقافة مصرا
ما أراها تزداد إلا
بعدا عليّ وعسرا
كما عانى جسده النحيل من داء الصدر والالتهابات المتكررة، وضاعف ذلك الإرهاق في الدروس بالمعهد العلمي والعمل في طلمبة الوقود واستنشاق البنزين وتلوث الجو، وقد أطلق زفرة حرى في ديوانه (إشراقة) بعد فصله بسبب الدسائس والحقد على كل ما هو جميل، ليودع الحياة شاباً في العشرينيات قائلاً:
والمجد أجدر بالشباب وإنما
للناس موجدة على أصحابه
ولم يسلم كذلك الشاعر “أمل دنقل” الذي قدم من الصعيد لقاهرة المعز فانتقل إلى عالم من المعاناة والضنك والضيق ليستنشق دخان السجائر والقهاوي ورطوبة السكن، مما أسهم في إصابته بالسرطان، فعاش ألم الجسد وقابل ذلك بصبر وجلد، ولكن ازداد ألمه بعد هزيمة النكسة في يونيو – حزيران، فكتب (تعليق على ما حدث)، وكان وهو يقضي آخر أيامه في (معهد ناصر للسرطان) بالغرفة الشهيرة تلك، كان يهزج أيضاً بالأغنيات الشعبية مستهزئاً بالمرض، رافعاً من روحه المعنوية، ليلقى ربه ضاحكاً مستبشراً بحياة أبدية أكثر جمالاً وألقاً، ولعله قد حقق النصر الذي تمنى أن يراه ويعيشه في حياته الدنيا، ولكنه لم يكن يدري أن راحته من ألم الجسد وألم الروح ومعاناة النفس ستكون في عوالم أكثر علواً ورفعة ومجداً!!
ولعل هذا الحلف البغيض ما بين الإبداع والمرض والمعاناة والبؤس، ظل من أكثر الأحلاف صموداً على مر التاريخ، وما يزال يؤتي أكله كل عام ألماً ومشقة للمبدعين والمستنيرين، الذين يحترقون شعراً وأدباً وغناء وموسيقى وغيرها من ضروب الإبداع والتعبير وصور الفن المختلفة، ذلك الفن الذي لم أجد تعبيراً يصوره ويعرفه أكثر جمالاً وشمولاً وإلماماً من تعبير وتعريف الأستاذ الشهيد “محمود محمد طه” عليه الرحمة، عندما عرف الفن والإبداع بأنه: (التعبير عن ملكة التعبير)، ولكن هو نفسه لم يكن جزاؤه إلا مثل جزاء سنمار على تفرده وفكره الثاقب، فقد اُغتيل وقُتل في وضح النهار في صورة أخرى من ألم الإبداع والفكر، وخرج ليلاقي الموت الذي يفرون منه ضاحكاً متبسماً وبابتسامة مضيئة وكأنه يستشرف عالماً آخر من الفرح ويفتح باباً للخروج من ضيق الدنيا إلى سعة الآخرة:
جاء بابتسامة
ثم قال مع السلامة
وسيبقى رغم سجن الموت يبقى
غير محدود الإقامة
وإذا عدنا للتاريخ وغصنا بين صفحاته لوجدنا شيخاً كهلاً يحمل أسفاره ويسير في صحراء قاحلة متحملاً المرض والعطش والجوع وذلك بعد أن أخرج من مدينته (بسطام) ليناديه منادٍٍ (إلى أين؟) فيجيب: (أبا يزيد البسطامي.. خرجت أطلب الحق) فيجيبه ذلك المنادي: (إن ما خرجت تطلبه تركته خلفك ببسطام)، وعندما يخرج ويقفل راجعاً يواجه جور السلطان وبطش الأعوان وجور الأزمان ويلقى حتفه مقتولاً ومصلوباً على جذع شجرة امتصت منه الحرية ونضارة الإبداع، ليتذكره التاريخ ويتجاهل من قتلوه.
ولا زلنا نرى ونسمع العديد من مبدعينا – خاصة الشباب – في شتى الضروب والمجالات وهم يعانون المرض والإهمال والاكتئاب والفقر ونحن نراهم يزوون أمامنا، حتى إذا ما ماتوا بكيناهم وذرفنا عليهم الدمع الثخين، وصرفنا في مهرجانات تأبينهم الملايين التي لو وجدوها لساعدتهم في العلاج وأسباب الحياة.
فيا مبدعي بلادي واصلوا غناءكم كما تغنى “برومثيوس”.. فعسى أن يسمعوكم يوماً ما، ولكن لا تأملوا كثيراً فهم عادة لا يسمعون!!