البجراوية.. أرض التاريخ تعيش الآن خارج التاريخ!
بعد رحلة طويلة امتدت إلى حوالي الثلاث ساعات والنصف قطعنا خلالها (213) كيلومتر من مقر تحركنا من مركز (راشد دياب) بالخرطوم وصلنا منطقة البجراوية الأثرية التي تعد من أهم المناطق الأثرية في السودان.
ورغم أنها كانت الزيارة الثانية لي خلال عامين.. إلا أن معظم تفاصيل الزيارة السابقة أعدت تكرارها بالكربون، فلم ينصلح حال القرية الأثرية التي تخلو من أية خدمات ولا تجد فيها سوى بعض الباعة الذين يفترشون الرمال الحارقة ويعرضون بضائعهم من الحلي القديمة والتذكارات من الصناعات المحلية اليدوية، من الخناجر والسيوف ونماذج صغيرة من الأهرامات المصنوعة من الطوب والآلات الموسيقية التقليدية، لبيعها للوفود السياحية والزوار وبعض الآبالة الذين ينقلون الزوار إلى الأهرامات ولا شيء سوى ذلك.
رسم الدخول إلى القرية التراثية يبلغ (50) جنيهاً للأجنبي و(5) جنيهات للسوداني، وعند خروجك من القرية تتلقفك الأسئلة الملحة حول جدوى تحصيل تلك الرسوم، لأن القرية تفتقد لكل مقومات الأماكن السياحية، تنعدم فيها المرافق الصحية ويجب على كل زائر أن يدخل إليها محملاً بقوارير المياه حتى لا ينهش العطش جوفه.. وحتى المرشد السياحي الذي يعد أبسط مقومات المناطق الأثرية لن تجد له أثراً.. وما على الزائرين سوى الاستعانة بمعلوماتهم الضئيلة حول المنطقة في حال كنت برفقة أجانب مثلما كان حال وفدنا السياحي الذي كان يضم الفنان الأسباني العالمي “خواكين سيلسيا” الذي قدم إلى البلاد بدعوة من مركز (راشد دياب) للفنون بقيادة الأستاذ “شهاب عمر عباس” مدير المركز وبعض المهتمين بالفنون وفلسطينيين وفنانة أسبانية.
تقول المراجع العلمية التاريخية والاركولوجية، إن مدينة (مروي) تُعدّ من أهم المدن التاريخية في أفريقية، فقد شُيِّدت على موقع سكني مقر الملوك المرويين منذ القرن السادس قبل الميلاد، وحسب ما يورد المؤرخون فقد انتقلت إليها العاصمة من (نبتة) عام (591) ق.م، وقد عاصرت دولة (مروي) البجراوية الفرس والبطالمة في مصر. ويوجد فيها نوعان من المعابد.. المعبد الآموني والمعبد المروي.
وتبلغ مساحة المدينة ما بين (30) و(50) هكتاراً، ويبلغ مجمل عدد الأهرامات (57) هرماً من جملة أهرامات أخرى، وقد تم اكتشاف خرائط الشكل الهندسي للهرم داخل الهرم الذي يُعرف (هرم ذو الطرف المسطح)، حيث وجدت داخل الغرفة رقم (8)، وتشتمل (مروي) على المدينة الملكية ومجموعة من الأهرامات التي تحتوي على المدافن تُعرف بالأهرامات الجنوبية والأهرامات الشمالية والأهرامات الغربية.
الأهرامات الجنوبية: تقع على بعد أربعة كيلو مترات إلى الشرق وعلى حافة سلسلة من تلال الحجر الرملي وهي الأقدم زمن سلالة الملوك المرويين في الفترة ما بين (270 ق. م – 300 ق. م)، وهي تعد الأهرامات الأولى التي بُنيت في (مروي) متبعة بذلك تقاليد الدفن الملكي من (نوري) وجبل (البركل) وتشتمل على مقابر الملوك وملكات مملكة (مروي).
الأهرامات الشمالية: تقع إلى الشمال عبر الوادي، وقد بدأت هذه المجموعة كجبانة ملكية حوالي (270 ق. م) وتحتوي على مجموعة مدامن وأهرامات ملوك امتدت حتى (330 ق. م).
الأهرامات الغربية: تقع في المنطقة المنبسطة من مدينة (مروي) بين الجبانة الأهرامات الجنوبية والأهرامات الشمالية، وهي أهرامات صغيرة الحجم لرجال البلاط الملكي والوزراء، كما توجد بقايا معبد الشمس. وقد بدأ الدفن فيها بالتزامن مع الدفن في الأهرامات الجنوبية واستمر حتى نهاية مملكة العصر المروي.
عند خروجنا من القرية التراثية لم نجد سوى سيارة (الفود) السياحي وبعض الباعة الذين كانوا يفترشون الأرض ويعرضون في إلحاح بضاعتهم المصنوعة من مواد محلية من النحاس والحجر والطين.. سيدة في منتصف العمر من السكان المحليين، فاجأتنا داخل السيارة بطلب غريب أن نمنحها صحيفة لتعرف أخبار البلد، وعندما منحناها إحدى الصحف اليومية التي كانت بحوزتنا هرولت مبتعدة وعلى محياها ملامح السرور وهي تتمتم: (والله آخر جريدة قريناها كانت قبل شهر كامل)، وقتها لم أملك سوى أن أتمتم في سري أن (البجراوية.. أرض التاريخ… التي تعيش الآن خارج التاريخ).