انقلاب..!
التطورات الأمنية التي تشهدها جوبا منذ مساء أمس الأول وصباح أمس، والتي أعقبت احتقاناً شهده اجتماع ما يسمى بمجلس التحرير للحركة الشعبية الذي أبعدت عنه بعض القيادات التي أقيلت أخيراً “باقان”، “مشار” وآخرين، تبقى تطورات تهم السودان للغاية، فمعلوم أن أيما حراك في كامل منظومة دول الجوار تتأثر به تلك الدول بأسرها وإن كانت على درجات متفاوتة، وسقف الأمن الوطني لأي بلد إنما يرتفع سلامة واستقراراً بحجم ارتفاع سقوفات الجوار، ولهذا لابد من القول إن الصدى الواسع لتلك الأحداث في شارع الخرطوم أمر طبيعي والاهتمام بها ورصدها وتحليلها والتحسب لكل نتائجها كذلك.
حتى ظهر أمس، حيث ميقات كتابة هذه السطور، تبدو الرواية الأولية أنه انقلاب أحبطته السلطات، حيث ظهر الرئيس “سلفاكير” بنفسه بزي العمليات العسكرية، ويبدو أنه كسب الوضع على الأرض فلجأ للكسب الإعلامي والسياسي بتأكيده أن المتورطين في العملية التي سمّاها جريمة سيحاكمون في المحاكم، في إشارة منه إلى أن الاقتياد إلى الإعدام مباشرة لن يتم هذه المرة خلافاً لمرات سابقة جرى فيها العرف على أن الصراع هناك يقتل المتورط فيه.
المحصلة والقراءة الأولية تشير عندي إلى أن التيار المتشدد ضد الخرطوم قد كتب حتماً نهايته في حال ثبوت تورط قيادات كبيرة مثل “باقان أموم” وبعض جنرالات الجيش أو السياسيين ممن يصنفون بكونهم حلفاء لأعداء الخرطوم في جوبا، ويطال هذا بالطبع الجبهة الثورية التي تنتشر عناصرها المسلحة داخل العاصمة الجنوبية وخارجها، حيث إن صعود وتيرة الصراع وبلوغه ذروة الإقصاء بالسلاح والانقلاب ستجعل اتجاهات “سلفاكير” الجديدة ماضية نحو اجتثاث شأفة ذاك التيار بالكامل، وسيكون حظ بعض القيادات الشمالية بقطاع الشمال أو الثورية عسيراً، وخاتمتهم سيئة إن تصادف وجودهم في ساحة الصراع الذي لن يرحم فيه المنتصر المهزوم.
ورغم هذا، فالراجح عندي أن “سلفاكير” وقياساً على اللغة التي تحدث بها في المؤتمر الصحفي عقب ساعات من الأحداث، وفي هذه اللحظات اعتاد الناس الحديث بلغة حادة وعنيفة، فإن الرجل أدار خطابه بروح أقرب للمزاح والمرح، وحتى عندما سئل عن مصير “رياك مشار” فإنه لم يجنح إلى الإساءة، وبدا مكتفياً بأنه كذلك لا يعلم أو شيئاً من هذا، وهو ما يشير إلى أن رئيس حكومة جنوب السودان لا يريد الاندفاع في تعقيد الأمر، فهو يحرص فيما يبدو على الفصل بين الأشخاص وأي روابط خلفية مساندة لهم، وهو إجراء ينم عن الحكمة في بلد تتعقد فيه الخارطة القبلية وتتشابك، بحيث إن احتكاكاً صغيراً مع الكتل الكبرى تلك قد يخلق مشكلة لن تنفرج بسهولة، في ظل وجود جماعات مسلحة مناهضة للحكم في جوبا ستسعد قطعاً باستقطاب حلفاء، ومن مناطق تعدّ حيوية للبلد الجديد، حيث حقول النفط التي تحيط بها قبائل النوير.
حتى الآن وما لم يقع طارئ، فإن الأمور تمضي إلى صالح “سلفا”، الذي خلافاً لما يعتقد الكثيرون، يبدو أنه أكثر (مكراً) مما يظن خصومه، وقد يكون دفع بشكل ما وعمداً خصومه إلى هذه المواجهة ليتخلص منهم بأسباب مشروعة وقانونية كما قال.