الوزير القادم..
} جلس مسترخياً في مقعد وثير بالصالة الكبيرة بالفندق الذي يستضيف بعض الأنشطة الحكومية، وأخذ نفساً عميقاً وهو يحدق في وجوه أصدقائه من قيادات الحزب وزملاء الدراسة وبعض المقربين إليه، وقد بات الرجل مرشحاً متفقاً عليه من القيادات النافذة في الحزب الموصولة بالقيادة.. التي يصغى إليها في رابعة النهار.. ومنتصف الليل.. بات قريباً من كرسي الوزارة الاتحادية ذات الصيت والبريق والمال (المجنب) في حسابات يوقع عليها الوزير فقط.
} الرجل المرتقب تعيينه تنتظره أسفار لبلادٍ ترامت وراء بلاد، ومؤتمرات تنعقد في “ريودي جانيرو”، وأخرى في “جوهانسبرج” و”طوكيو” و”بلغراد”، وأحلام وردية تدغدغ المشاعر، وآمال عريضة في حياة الوزارة والإمارة التي تهفو إليه قلوب العاشقين.. منذ الصبا الباكر وحتى المشيب!!
} الوزير القادم حدثته نفسه الأمارة بالخير أن يتبنى أصالة عن نفسه في أول اجتماع لمجلس الوزراء مقترحاً يضعه بين يدي مجلس الوزراء الجديد بإقرار المجلس خطة سياسية عاجلة لتوحيد الجبهة الداخلية، وإعلان مجلس الوزراء فتح صفحة جديدة مع كل من يحمل السلاح والاستعداد للتفاوض معه والاستجابة لمطالبه، حقناً لدماء الأبرياء، ودرءاً لمخاطر أن يتشرذم ما تبقى من الوطن!! ولكن الرجل نازعته نفسه الأمارة بالخوف والتردد.. هل ستجد مثل هذه المقترحات استجابة من الحكومة؟ أخشى أن (يفهموني غلط) وأصبح منذ أول يوم لدخولي مجلس الوزراء مغضوباً عليه مطروداً من رحمة الكبار منبوذاً من أهل الحل والعقد!! العقلانية تقتضي (التريث) والمراقبة، وتأييد كل ما يطرح من آراء في المرحلة الأولى، حتى لا يكتب اسمي ضمن قائمة غير المرضي عنهم.. لكني لن أساوم في مبادئي التي نشأت عليها ووطنت نفسي على العمل من أجل ترسيخها كممارسة في حياتي.. بسط العدل والشفافية في الممارسة.. لا عطاءات للخاصة.. ولا تمييز بين الشركات الوطنية.. ولا تجنيب للمال العام ولا خيار وفقوس في التوظيف.. ولا لحزب أعمل.. ولائي للسودان وللشعب أولاً، والبرِّ بالقسم الذي في عنقي.. وأن أحدث زملائي في مجلس الوزراء في أول اجتماع بهذه القيم الرفيعة، لأننا سنأتي لكرسي السلطة وبلادنا تمر بظروف معلومة..
} رشف من كوب القهوة الذي وضعه النادل أمامه، وتذكر أن صديقه الذي عين من قبل في منصب الوزير بعد سنوات كفاح طويلة بالجامعة محاضراً قد تم فصله وإبعاده من الوزارة في ثلاثة أشهر فقط، بسبب آرائه التي جهر بها خارج أسوار المؤسسات، الشيء الذي اعتبر تغريداً بعيداً عن السرب.. الصحيح أن أحتفظ بمثل هذه الآراء لنفسي وأحدث بها أولاً أعضاء الحزب بعيداً عن مجلس الوزراء الذي يضم آخرين من أحزاب متعددة.. لماذا لا أتبنى شخصياً مقترحاً من داخل مجلس الوزراء لإعادة النظر جذرياً في سياسات البلاد الداخلية قبل الخارجية.. تنظيف ملابسنا الداخلية من خروقات تشوه صورتنا خارجياً.. وقف حملات النظام العام والتعسف في استخدام القوة المفرطة تجاه المتظاهرين.. وتبني سياسات اجتماعية جديدة نحو الشرائح الفقيرة بعيداً عن الدعاية الإعلامية الحالية، وإعادة النظر كلياً في السياسات الإعلامية في الأجهزة التي تسمى قومية، كالتلفزيون والإذاعة، بحيث تصبح أوعية معبرة عن التعدد الثقافي والإثني والجهوي، وخطاب سياسي جديد يوحد لا يفرق ينبذ كل ظلال العنصرية والجوية، ولماذا لا يتبنى مجلس الوزراء الجديد سياسات خارجية قوامها رعاية مصالح السودان وشعبه بعيداً عن مخلفات القرن الماضي؟!!
} ثم يستدرك الرجل في مقعده، وهو يتأمل في سقف الفندق الفخيم.. دعك من الوساوس وشطحات الأكاديميين ومثالية السياسيين غير التنفيذيين.. الزم مقعدك، وصوب بصرك نحو المهام التي تسند إليك، هناك من يفكر نيابة عنك، ومن يقرر في شؤون هو أعلم منك بها، فلا تشغل نفسك بالترف الفكري وشطحات المثاليين.. السياسة تقتضي الواقعية، والذين جلسوا في مقعدك المنتظر لمدة (23) عاماً.. لم يعمروا كل هذه السنوات إلا بصمتهم وعقلانيتهم وأدبهم واحترامهم لأنفسهم وقياداتهم.. دع كل هذه المقترحات لمقبل السنوات، وأقبل على وزارتك صامتاً طائعاً لقادتك منفذاً لا مفكراً.. يُكتب لك البقاء طويلاً في الوزارة الجديدة!!