المنديل .. رسول الحب النبيل في الزمن الجميل!
(رسل لي هدية جميلة خلت قلبي يحن ويميل…
حرير أبيض مشغول بقطيفة وصورة قلب وسهم نحيل..
ما إنت جميل والجابك لي ملاك وجميل يا منديل)
ارتباط وثيق بين مقاطع الأغنية الرائعة التي صدح بها سفير الأغنية السودانية “سيد خليفة” والمشهد الرومانسي الذي تجسد منذ زمن ليس بقريب، وتفاصيل ذلك المشهد تحكي عن فتاة رقيقة أبت قدماها أن تطاوعها على التحرك عندما حاولت جرجرتها معلنة وداع حبيبها الذي يستعد لمغادرة البلاد، وفي لحظات الفراق الأخيرة في صالة المغادرة بـ(مطار الخرطوم) أهداها تذكاراً عزيزاً كان عبارة عن اسورة (غويشة) من معدن النحاس.
وعندها أرادت أن ترد الهدية بأفضل منها لم يكن معها شيء تهديه لحبيبها، في الدقائق الأخيرة انتبهت لمنديلها الخاص، فقامت بإهدائه له فأخذه منها بحنو ووضعه في جيب بدلته الأنيقة وابتسم ثم لوح مودعاً ليلحق بالطائرة.
لعل هذه الحكاية وغيرها من الحكايات والقصص تؤكد أن للمناديل ارتباطاً وثيقاً بالعلاقات العاطفية مثلما له ارتباط بعالم المخابرات والتجسس، بجانب أنه يعد واحداً من مكملات الأناقة والجمال.
المساحة التالية نفردها للحديث عن المناديل التي شكلت وجدان المحب والمحبوبة قديماً وكانت حاضرة في الشعر والغناء والحياة العامة.
وعن قصص المناديل وحكاويها تقول “عرفة أحمد” وهي من سيدات الزمن الجميل: المناديل في السابق كانت تنسج بخيوط الحب والمودة والوفاء ويكاد لا يخلو بيت سوداني منها، وكان المنديل عنوان الرُّقي والأناقة ورمز النظافة والجاذبية عكس هذا الزمان، مبينة أن أشكالها كانت محددة منها (القلب والصليب أو أشكال هندسية أو خطوط رفيعة ورسومات وورود) وألوانها دائماً تميل إلى (البمبي والبنفسج الفاتح والبيج الغامض)، وأشارت إلى أنها كانت تُصنع من الأقمشة كالحرير والبوبلين وهو قماش قطني (100%)، إضافة لـ(الساتوندا الإنجليزي)، مبينة أن الخياطة والتطريز تكون في أطراف المنديل وبأنواع مختلفة منها (الكُرشيه والقرنفل والبردلي)، إضافة إلى الطباعة التي تكون في أشكال كالقلوب والزهور والتفاحة.
المناديل والحب:
قديماً كانت البنات يشغلن المناديل ويهدينها للخطيب والعريس وأصحابه. وذكرت لنا الخالة “سعاد” أغنية «منديلي البنبي بغسلو وبكوي قال لي ما تبكي كان حي بعود واجي»، كان الخطيب يعبّر عن مشاعره عندما يصله منديل خطيبته، فيقول مقاطع من أغنيات على نسق (بغنيلك بناديلك بقدر خيوط مناديلك).
كما أن البنات يخطن المناديل لأحبابهن وعشاقهن، حيث دخل المنديل عالم الحب والغرام وأولى علامات اللقاء بين حبيبين تبدأ بإهداء منديل.
وأغنية وردي (بالله يا طير قبل ما تشرب تمر على بيت صغير تلقى الحبيبة بتشتغل منديل حرير لحبيب بعيد)،
ومعروف أن المناديل ذات أهمية لدى الأفندية والسفراء وفرق الكشافة ورجال السلك الدبلوماسي، حيث لا تبارحهم كما يشترط عليهم أخذها.
المناديل والشهرة:
وبحسب بعض الجدات المعتقات بقصص الماضي عن المناديل إن أشهرها كان منديل سيدة الغناء العربي “أم كلثوم” المغنية المصرية التي كانت تمدح وما أن اتجهت للغناء حتى أعطاها والدها منديلاً تمسكه بيدها لكي تطمئن وتغني، وبعدها أصبحت عادة لها، وكذلك المطربة السودانية “عائشة الفلاتية” لها تسجيلات في أواخر الستينيات ظهرت فيها تغني وهي ممسكة بمنديل.
مناديل التجسس
ويقال أن أحد رجال المخابرات المصرية الشهير كان يكتب في منديله الأبيض الخاص معلومات سرية بقلم الـ(الثري اتيش) وكان حريصاً عليه ولكن نسيه ذات يوم فقامت ابنته بغسله وعرفت المعلومات التي كان يخفيها أبيها فقام بتقديم استقالته من جهاز المخابرات، وكشف أن مهمته انتهت بعدما علمت ابنته بأسرار عمله.
ومعروف أن أشهر جاسوسة في العالم وهي اليابانية «بيكون» التي كانت مزروعة في (تل أبيب) كانت ترمي المعلومات وهي مكتوبة على المناديل في حمامات القطار إلى أن غادرت إلى (أمريكا)، وعُرف أن رسائلها الجاسوسية كانت عبر المناديل.
أسباب لعذاب وفراق وحرمان:
كما أن المناديل كانت سبباً من أسباب الفراق والحرج خاصة إذا كشف أمرها في الحب والمثال الأكثر وضوحاً في مسرحية (عطيل) لـ”شكسبير” وفيها اتهم (الدزمونة) بخيانة حبه الكبير لها حيث وجد منديلها لدى غريمه.
وتتوالى أحاديث المناديل بين عشق قاتل وآخر ينمو بالقلب، فكان منديل «عشيقة الامبراطور نابليون «جوزفين» ومناديل أخرى تعلقت بشباك المحبين.
وفي (تركيا) هناك شجرة تسمى شجرة الأماني، حيث تعلق فيها المناديل محفوفة بأمنيات العاشقين كل عام.
كما أن للمناديل دلالات ذات أهمية وخصوصية في بعض الأديان، ففي المسيحية حدثنا الدكتور “فيلو ثاوس فرج” القمص بكنيسة الشهيدين عن علاقة قوية للمناديل والذين يأتون إلى الكنيسة، فأوضح أن المناديل في الكنيسة تستخدم في أشياء كثيرة أولها عندما يأتي الناس إلى تناول القرابين المقدسة يضعون المناديل على أفواههم لكي لا تخرج ويقع جزء منها لأنها بمثابة الجوهرة لديهم، مشيراً إلى أن نوعية تلك المناديل تصنع من القماش ويطرز بداخلها الصليب أو تُكتب وتطبع عليها قراءة من الإنجيل. وقال إن الكنيسة الآن تقوم بتوفير هذه المناديل عند القرابين التي يأتيها الرجال والنساء والأطفال من المشاغل اليدوية.
وسرد لنا عدداً من القصص القديمة في تاريخ المسيحية والتي توحي بأهمية المناديل في حياة المسيحيين التي سميت بالمناديل القدسية. وذكر لنا أن فتاة كانت تدعى «بيرونكا» هالها ما رأت من آلام السيد المسيح وتأثرت بها فأعطته منديلاً لها فوضعه على وجهه، فانطبع على المنديل وأصبح أثراً له. وقال إن هذا الأثر موجود حتى الآن في (تورنتو) بكندا مع كفن المسيح المقدس بحسب روايته.
أخيراً تمضي الأيام ويبقى المنديل رمزاً للمحبة والوفاء وتذكاراً عزيزاً.