أخبار

استراحة الجمعة

} جلس “عماد” في مقهى صغير ينتظر صحن الفول الذي يأتي به النادل.. أخرج من حقيبته المتهرئة صحيفة وبدأ في قراءة العناوين الحمراء.. تظاهرات في الخرطوم.. أنباء عن مرض “سلفاكير ميارديت”.. مجلس الأمن والسلم الأفريقي في أبيي اليوم.. لمح “عماد” من بعيد شخصاً يعرف ملامحه.. أسود البشرة.. فارع الطول.. شعره قرقدي.. جنابو “بيتر”؟ نعم منو أنت؟ ارتمى في أحضانه معانقاً بشدة.. نظر “بيتر” إلى وجه “عماد” طويلاً.. ثم قال (“عماد” بتاعين المجاهدين يا زول دي أنت).. تعانقا طويلاً.. خنقت عبرات البكاء الرجلين.. بدأ النحيب.. وأخذ “عماد” يردد بصوت سمعه كل من في المطعم ولم تفهمه الحبشية التي تصنع القهوة.. لا إله إلا الله.. وعاد الرجلان في عناق ونوبة بكاء جعلت الوسطاء يتدخلون لفض الاشتباك العاطفي.. يا جماعة الموت حق أصبروا.. يا جماعة أنتم رجال.. كلنا سنموت الفاتحة على المرحوم.. ما كان هناك ميت إلا الوطن نفسه.. أخذ “بيتر” كوباً من الماء البارد وصبه على وجهه وترك ما تبقى منه لـ “عماد” الذي أحمرت خدوده وسالت مياه مخاطية من أنفه.
} جلس “بيتر” يسأل “عماد”: يا أخي أنت وين؟ “عماد” ينظر بعيداً عن صحن الفول الذي وضعه النادل أمامه: يا “بيتر”.. أنا بعد خروجي من السلاح الطبي وإجراء العملية الجراحية لاستئصال الشظية.. عدت للعمليات مرة أخرى في غرب الاستوائية ومنها إلى توريت التي سقطت في يد التمرد وحدث الانقسام في حزبنا الحركة الإسلامية.. اعتزلت النشاط السياسي.. عدت إلى قريتي “الحقنة” بولاية نهر النيل مزارعاً بعيداً عن الخرطوم.. تركت الحركة الإسلامية والمؤتمر الوطني ورفضت الانضمام للشعبي.. واعتزلت السياسة يوم انقسام الجنوب، حينما شعرت بأنني (خنت) أكثر من (300) ألف من إخوتي من الجنوب قاتلوا معنا قتال الرجال من أجل أن يبقى السودان موحداً ولكن.. آهـ آهـ.. عادت نوبة البكاء وذرف الدموع.. طبطب “بيتر” على كتفه وبدأ يروي قصته: بعد الفراق عدت ضابطاً لوحدتي في سلاح المدرعات.. زوجتي “فتحية” مات والدها في الرنك.. وفي طريقها لأداء واجب العزاء، ماتت هي الأخرى في حادث حركة بمنطقة القطينة.. عندما جاءت الحركة الشعبية في الفترة الانتقالية اختار بعض الضباط من الزملاء الانضمام إليها، ولكني شعرت بوخز الضمير كيف أخون دماء زملائي؟ أنا مؤمن بوحدة السودان.. أكثر من (20) عاماً من عمري وأنا مقاتل في صفوف الجيش.. بيتي في الكلاكلة.. وأمي دفنت بمقابر الرميلة.. ووالدي دفن بمقابر شندي مع المسلمين مع أنه مسيحي.. جاءت كارثة الانفصال فأصبحت أجنبياً في وطني.. سألت: هل القانون والدستور والأعراف الدولية تمنع وجودي في وطني الأم؟ لم أجد إجابة.. تمت إحالتي للتقاعد الإجباري.. تسلمت كل مستحقاتي المالية.. ولكني فشلت في العودة للجنوب.. أنا هنا عاطل بلا عمل.. ينظر إلينا كأجانب في وطننا.. يعدّنا الجنوبيون عملاء للشماليين.. يرفضون وجودنا.. فكرت في الهجرة لأرض الله الواسعة.. لم أجد سبباً للخروج من وطني السودان.. هل لا تزال يا صديقي “عماد” تتذكر حصارنا في مريو؟ وتتذكر الشهيد “آدم ترايو” في الميل أربعين.. يا أخي وين المجاهد “عثمان”؟ وين “أسامة” الشايقي و”صلاح” ود الجزيرة؟!
} عادت نوبات البكاء مرة أخرى.. ولكن “عماد” خرج من المقهى دون تناول وجبة الإفطار.. شعر بانقباض في صدره وألم شديد في بطنه ولم يودع المقدم (م) “بيتر”.. هرول بعيداً عنه لينسى بعض أسباب أوجاع قلبه العليل!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية