ثقافتنا في خطر..!!
(طيور الجنة) فرقة فنية استعراضية متخصصة في ثقافة الطفل وتبث برامجها وتعيد بث تلك البرامج بشكل راتب عبر قناتها الخاصة، ويتلقى تلك البرامج ملايين الأطفال في الوطن العربي، ويعد مواد الفرقة كُتاب وأدباء وشعراء وموسيقيون متخصصون في هذا الضرب من الثقافة المهمة، وأطفال السودان يتابعون برامج (طيور الجنة) بشغف وإعجاب شديد الشيء الذي جعل القائمين على أمر تلك الفرقة يلبون الدعوة أكثر من مرة لتقديم عروض الفرقة الشهيرة، ولم تكن العروض قاصرة على عاصمتنا القومية، بل امتدت عروضها إلى بعض عواصم الولايات.. وبالطبع تذكر الأسر السودانية رغبة أطفالها الملحة في حضور تلك العروض والمعاناة التي حصلت للحصول على التذاكر، بل بلغ الأمر أن التذاكر دخلت السوق السوداء وارتفعت قيمة التذكرة بصورة مبالغ فيها.. كل هذه المقدمة الطويلة أردت بها النفاذ إلى طرح سؤال أرجو أن يكون موضوعياً: لماذا كل هذا الإقبال؟ والإجابة بسيطة، لأن عروض تلك الفرقة جاذبة ومشوقة استقطبت أطفالنا.. ويظل السؤال قائماً: لماذا؟! لأن متخصصين في صناعة تلك البرامج صنعوها بذلك الشكل والمضمون المشوق.. والحق يقال إنني شاهدت وتابعت تلك البرامج وأجريت مسحاً حوارياً مع العديد من الأطفال المشاهدين لتلك البرامج، وانتهيت بنتيجة مخيفة مفادها أن طفلنا لم يجد في برامج الأطفال التي تعدها القنوات الفضائية السودانية ما يروق لمزاجه، وفضاء القنوات متاح لجميع الأطفال يمكن أن يلجوه بسهولة بإدارتهم مفاتيح تغيير القنوات وهم أحرار يثبتون القناة التي تروق لهم.. والسؤال: لماذا انصرف أطفالنا عن برامج الأطفال التي تبثها قنواتنا الفضائية الخاصة منها والعامة، ما العلة وما السبب؟! هل لأنها تفتقر للكادر المتخصص الذي يصنع تلك البرامج؟ الإجابة: نحن نملك الكادر الذي يصنع مثل تلك البرامج، لكن العلة تكمن في ضمور وشح الميزانيات المخصصة لبرامج أطفال السودان.. والأمر سادتي أصبح صناعة تواجه منافسة شرسة وعرضاً وطلباً، تحتاج إلى خبراء يضعون في اعتبارهم تلك المنافسة لفضاء صار مفتوحاً ومشاعاً بسبب التطور التقني السريع الذي شمل وسائط انتقال الصورة والصوت بالشكل المذهل المخيف، ودونكم المواقع الإسفيرية، من مواقع شخصية إلى هواتف نقالة تتبارى الشركات المتخصصة في إحداث التطور بشكل مدهش وسريع لم يجعل لخصوصية الإنسان مكاناً، فأصبح الفضاء مشاعاً، ومخترقاً- للأسف- بصورة بشعة وسافرة للدرجة التي دفعت أصحاب رؤوس الأموال إلى ولوج هذا النوع من الاستثمار لا يردعهم وازع أخلاقي أو حتى ديني يمنعهم من الترويج للثقافة السالبة المدمرة، وتضرب تلك الشركات عدة عصافير بحجر واحد، والإحصائيات المرصودة تبين ضخامة أرباح تلك التجارة والصناعة، وليت الأمر كان قاصراً على الربح المادي، بل تعدى ذلك إلى أهداف إستراتيجية تهدف إلى تكريس ثقافة العنف والجنس وطمر الثقافة العربية والإسلامية، والمستهدف هو الشباب العربي المسلم لطمس ثقافته وأصالته وإفراغه من القيم الخيرة الراسخة، وتعبئته بالقيم السالبة التي تجعل منه هو الآخر كائناً أجوف يسهل توجيهه بالنواحي التي يهدف إليها المستهدف الذي خطط لتلك الإستراتيجيات الثقافية الخطيرة.. ودونكم العديد من الجرائم المعاصرة التي لم تكن معروفة في مجتمعاتنا العربية الإسلامية، وإفرازات تلك البرامج بدأت تظهر، فهنالك عشرات الآلاف من الشباب الذين تركوا أوطانهم وآثروا العيش في بلدان جذبتهم ببريقها المادي، والبلاد تلك من ألدّ أعداء العروبة والإسلام، والعديد من هؤلاء الشباب يفاخر بأنه يحمل الهوية الأجنبية، ويتبرأ ويسخر من أصله وجذوره، والأمم يبنيها بنوها الشباب الحر المتمسك بموروثه ومعتقداته وجذوره التاريخية والحضارية.. فالذي يحدث سادتي تدمير شامل لعقول شبابنا، ولننتبه لما يحدث، فنحن نواجه حرباً ثقافية آلتها خطيرة مدسوس فيها السم وسط مقبلات ومشوقات بصرية سمعية تدخل المسام والعقل.. ولا يمكن التصدي لهذه الحرب التي اشتعلت أوارها إلا بأسلحة مضادة من حيث حجم ونوع الأسلحة الثقافية الموجهة نحو عقول أطفالنا وشبابنا، ولا ضير، بل الخير كل الخير أن نجمع خبراءنا من مبدعين ليبدعوا ويصمموا البرامج الثقافية التي تنافس البرامج الآتية عبر وسائط الإعلام على مدى ساعات اليوم، ولا ضير في إنفاق المال لتوفير مدخلات تلك الصناعة من إكسسوارات وملابس وديكور وآليات تنفيذ تلك البرامج، واستجلاب أحدث تقنيات الإنتاج، وأنا على يقين من توفر المادة الثقافية من موروثنا المهمل من ثقافة متنوعة ومتعددة، تحتاج منا إلى التنقيب والبحث لنبث الروح فيها وتحويلها إلى برامج مشوقة ترقى للمشاهدة.. والمحزن حقاً أن صناع تلك الثقافة من أهل السودان عددهم مقدر، درسوا وتمرسوا في هذا الضرب من الفنون، وأذكر على سبيل المثال أساتذة برعوا في هذا المجال صديقي الأستاذ “معتصم الجعيلي” الذي برع في الرسوم المتحركة للدرجة التي نال فيها فيلم من تصميمه وإنتاجه وإخراجه جائرة إقليمية، فبادر وأسس قناة (هارموني) الفضائية التي انطلقت بقوة مستقطبة المشاهدين حتى خارج حدود الوطن، لكن للأسف توقف إبداع “الجعيلي” بسبب عدم توفر المال.. فأين أنت أيها الفنان؟! أدرك تماماً حالة المبدع الذي لا يجد المعينات لنشر إبداعه، فهو أشبه بالمخنوق الذي لا يستطيع التنفس، أو كمن يحمل ثقلاً في صدره لا يقوى على إخراجه.. وهنالك من الشباب الذين فازوا بجوائز مقدرة في مهرجانات جرت فعالياتها خارج حدود الوطن.. عناوين كثيرة لإنتاج إبداعي خالص فازت في تظاهرات ثقافية، ونجوم انطفأ بريقها ولم تتوهج مرة أخرى بسبب قصور في الرؤى الإستراتيجية لصناعة الثقافية.. إلى متى تظل الفكرة التي سادت منذ أن نلنا استقلالنا بأن الثقافة ليست أولوية في الهمّ العام وأنها من فضول القول وليست من المهام الأولية؟ والحق هو أن الثقافة هي رأس قاطرة الحياة، وهي التي تعبر بالإنسان والمجتمع إلى رحاب الحضارة والإنسانية والتنمية، لأن الإنسان الذي عبأته الثقافة هو القادر على صنع الحياة، فلنجعل من الثقافة أمراً مهماً وحيوياً ونطلق طاقات أهل الإبداع من عقالها لتنطلق تجمل حياة أهل السودان.. عندها ستتوقف الحرب وتتفجر طاقات إنسان السودان لترسم الواقع الجديد المعافى المبرأ من شوائب الحياة، فالمختلس واللص والمجرد من حب الوطن إنسان خامل متكلس لا يصنع الخير ولا الحياة والجمال، وسيواصل طفلنا الاحتفاء بـ(توم وجيري) و(الرجل الخارق) وحاجات تانية ما أنزل الله بها من سلطان بتعاطيه لثقافات مادية تغيره تماماً إلى كائن مهووس بالمادة والعنف، وتعاطي الثقافة المادية من مخدرات وخلافه.. فنحن يا جماعة الخير نواجه حرب الثقافة الوافدة التي لن نقهرها إلا بثقافتنا السودانية الحقة.