الناطق الرسمي باسم الحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل) "إبراهيم الميرغني" لـ(المجهر) "1-3"
في تحليله للواقع السياسي السوداني الشائك والمعقد يأبى الناطق الرسمي باسم الحزب الاتحادي الديمقراطي (الأصل) “إبراهيم الميرغني”، إلا أن ينظر للواقع الحالي على أنه متصل بشكل قاسٍ و(نتائجي) بمجمل التاريخ السياسي السوداني الذي مورس فيه ما أطلق عليه (التدمير الذاتي) الذي وصل أقصاه حينما عمد جل الواصلين إلى (دسك) الحكم إلى محاولة القضاء على ما بناه السابقون، و”الميرغني” كقيادة شابة يحاول قدر جهده السير في توصيفاته تلك في سياق رؤية شاملة يقدمها هنا ويتجنب ما يؤكد أنها رؤية حزبه، بل يقدمها تارة (صراحة) وأخرى كتلميح على أنها تمثل رأي قيادة شابة تعبر عن تطلعات الشباب والشعب السوداني في بناء مستقبل أفضل في سياق الاستفادة من دروس وعبر الماضي.
(المجهر) التقته في حوار (عميق) قدم من خلاله رؤية مختلفة غير مرئية لحزب يوصف بـ(التقليدي).. فإلى مضابط الحوار.
} وأنا أتجاذب معك أطراف الحديث كنت تتحدث عن ما سميته أنت (التدمير الذاتي) وقلت إنه سمة ظلت فاعلة في الحياة السياسية.. ماذا تعني بها؟
– لدينا المشكلة الأولى وهي غياب التنمية والظلم.. والثانية ظلت موجودة.. والثالثة هي (التدمير الذاتي).. هنالك سمة ظلت ملازمة للحالة السياسية السودانية عقب الوصول إلى الحكم وهي إذا أردت بناءً ذاتياً لابد من تدمير الآخرين.. بدأت نظرية الهدم، والتنظيمان اللذان بدآ يظهران في الساحة كتنظيمات (راديكالية) أو كأحزاب أيديولوجية هما (الإسلاميون) و(اليساريون)، وكان عملهما الأساسي هو تدمير ما هو موجود، حيث لم يخلقا جماهير في ظل نفوذ (الأحزاب التقليدية)، فتم (الهدم) بشكل جنوني، وبدأ ما أطلق عليه (الطائفية) والقضاء على (القبلية).. أنا بالطبع أتحفظ على مصطلح (الطائفية) وهي سياسياً غير دقيقة في توصيف السودان، وأعتقد أن مكونات السودان القديم أفضل (مليون) مرة من السودان الجديد، حيث حافظ على تماسك الوطن، وقاد الناس إلى الابتعاد عن إراقة الدماء، وهو أمر واقع حتى لو كانت هناك تحفظات تجاهه فلا سبيل إلا التعامل معه.
} مقاطعة.. ولكن السودان القديم أخفق في إيجاد التنمية الحقيقية والواقع هو الذي قاد إلى مثل هذه الاتهامات.. أليس ذلك صحيحاً؟
– مشكلة غياب التنمية لم تكن موجودة في ذلك الوقت، فهذه المشكلة بدأت في السبعينيات، وحتى ذلك الوقت لم يتحدث أحد عن غياب التنمية.
} ما هي إذاً المسوغات التي بنى عليها الإسلاميون واليساريون ما وصفته بـ(المنهج التدميري)؟
– مسوغات (أيديولوجية)، فأنا أتحدث إليك عن أن مشكلتنا هي (الأدلجة) وبروز الفكر (المجاوز) للواقع سواء لدى اليساريين أو الإسلاميين، فهما لم يكن لديهما طرح في قضايا مثل (القهر الاجتماعي) أو خلافه، كانا يتحدثان من منطلقات (أيديولوجية) بحتة، فأحدهما كان يريد الوصول إلى دولة (الخلافة الإسلامية)، والآخر كان يريد الوصول إلى (الاشتراكية) الكاملة، أو إلى (المجتمع الشيوعي)، فطرحهما لم يكن تنموياً، ولم تكن التنمية هي الموضوع، والاستقطاب لم يكن موجوداً، نحن لدينا مقولة نقولها دائماً وهي أن السودان لا ينفع أن يكون (علمانياً) أو (إسلامياً) بالمعنى المتطرف، على الناس في السودان أن يتقبلوا إسلام هذه البلاد الموجود كما هو، فبداية الانهيار الحديث للدولة السودانية أتي من هنا، وهي بداية المشاريع الجاهزة التي حاولت تدمير الواقع ولا تتعامل معه، وهذا مثل بداية الانهيار الحديث للدولة السودانية.
} هل تتحدث عن حالات استقطاب؟
– الاستقطاب الإسلامي قاد إلى حادثة طرد (الحزب الشيوعي) من البرلمان، وكان ذلك أول انكسار كبير برأيي للديمقراطية، لم يأتِ هذا الأمر من انقلاب عسكري أو حكومة عسكرية، بل فعل ذلك النظام (المدني) نفسه، النظام الديمقراطي ذاته تبنى موقفاً بأدوات متجاوزة للديمقراطية، وللمرة الأولى منذ العام 1889م يحدث تحدٍ للقضاء، رغم أن هنالك نقطة يجب عليك أن تثبتها هنا من أجل التاريخ، وهي أن من تصدي لهذا القرار هم (الصوفية)، من تصدى لقرار حل (الحزب الشيوعي) هم المسلمون الطبيعيون، وأبرز الشخصيات التي قادت هذا التصدي هو الشيخ “علي عبد الرحمن” من حزب الشعب الديمقراطي الذي كان يمثل (الختمية) و(الصوفية).. هذه هي القوى التي تصدت لطرد الحزب الشيوعي من البرلمان، وهذه النقطة مهمة جداً من أجل التاريخ، وهي أن السودانيين الطبيعيين ليس لديهم التطرف لا العلماني ولا الإسلامي، هنا انكسرت الديمقراطية نفسها، وهذا يعدّ جزءاً من (التدمير الذاتي)، كما أنه يعبر بصورة جزئية عن الغيرة السياسية، فالإسلاميون حاولوا المزايدة على القوى ذات الخلفيات الإسلامية داخل البرلمان، حتى يقوموا بإخفاء الشيوعيين المنافسين لهم في الساحة، والصراع عوضاً عن أن يكون من الطرفين تجاه الأحزاب القديمة أو التقليدية، بدأ الصراع في التحول إلى تآكل داخلي قاد إلى انقلاب “جعفر نميري” فكانت (مايو) وبداياتها الحمراء، وهنا كانت البداية الحقيقية للتدمير الذاتي الذي بدأ قبل ذلك بظهور التيارين الإسلامي واليساري، ولكن التدمير الحقيقي للدولة السودانية ولهذا البلد بدأ بقيام انقلاب (مايو)، حيث بدأ بالفصل من الخدمة المدنية، ولأول مرة يبدأ فصل ممنهج من الخدمة العامة، كما بدأ بالمجازر، حيث تحدث مجزرة لأول مرة في تاريخ السودان سواء في (ود نوباوي) أو في (الجزيرة أبا)، ولكن من غرائب التاريخ أن هذا الأمر لم يستمر، فـ”نميري” انقلب على اليسار ذاته، وأيضاً قاد ذلك إلى مجزرة أخرى، فدخلنا الحلقة الجهنمية التي بدأت العمل، “نميري” انقلب على الشيوعيين، ومارس في حقهم مجازر يندي لها الجبين، وكان منهجه الأساسي هو التدمير، وبعد تخلصه من الشيوعيين، بدأ “نميري” الدخول في تحالف مع اليمين، وكان ذلك اليمين غريباً، حيث بدأت تتشكل قوى مصلحية من حوله مكونة من بعض شيوخ الطرق الصوفية والقبائل.
} ألم يكن هنالك منهج محدد يجري العمل به؟
– أريد الإشارة إلى نقطة، بحيث لا أتحدث من الناحية العاطفية، وهي أنه في الفترة من العام 1971م عقب انقلاب يوليو وتصدى “نميري” له وحتى ما قبل إعلان (قوانين سبتمبر) أو دعني أتحدث عن الفترة التي أعقبت اتفاقية (أديس أبابا) للسلام، حيث كان هنالك منهج (براغماتي) إيجابي، على الرغم من وجود القمع السياسي وإخفاء الآخر، “نميري” نحى منحى (براغماتياً) تنموياً استعان فيه بـ(التكنوقراط)، وبدأ يتجه اتجاهاً سلمياً، حيث رأي أنه تخلص من اليمين واليسار، ليتخذ منهجاً مصلحياً استطاع من خلاله التطوير بشكل كبير، وخلق علاقات خارجية للسودان، والتوصل لسلام في الجنوب، إلا أننا رجعنا مرة أخرى للاستقطاب اليميني، وبداية المصالحة الوطنية، حينما حدثت لـ”نميري” حالة تدين، وهذه تحدث لأي سوداني في آخر أيامه، حدثت لـ”نميري” حالة (تهويم) و(سلب ذهني) قادته إلى (اتجاه إسلامي) غريب،لا هو إسلام سياسي بالمعنى المعروف، ولا هو إسلام صوفي، ولا هو (شيعي)، إنما هي حالة غريبة، وللأسف فإن الحركة الإسلامية السودانية استغلت هذه الحالة، وزايدت بها بشكل كبير، واستغلتها في تصفية كل الخصوم الذين لم يكونوا هذه المرة من اليساريين، فاليسار تم تدميره، ولكن هذه المرة كان الخصوم تيارات إسلامية منافسة ومستنيرة، فتمت تصفية الأستاذ “محمود محمد طه” عليه الرحمة والمغفرة، وغيرها من الأحداث الكبيرة، كما تم إعلان “نميري” كأمير للمؤمنين في البيعة الشهيرة في شرق النيل.. لقد تمت ممارسة الدكتاتورية بغطاء ديني، حتى وصلنا إلى مرحلة أن بدأ “نميري” في تفكيك اتفاقية سلام الجنوب، فرجعت الحرب الأهلية الثانية مرة أخرى.. في آخر عهد “نميري” اجتمعت كل المشاكل القديمة، القهر والاستبداد، وتوقف التنمية والانهيار الاقتصادي والقهر الديني، و(قوانين سبتمبر) سيئة السمعة، وأخذ الناس بالشبهات، والاستهتار بالشعب، حيث كان خطاب “نميري” الأخير في الاتحاد الاشتراكي أكبر دليل على ذلك، بالإضافة إلى إحباط الشارع، وبرأيي أن كل الظروف التي مرت على السودان قبلاً مجزأة، اجتمعت في لحظة محددة وهي التي قادت لانتفاضة أبريل، والديمقراطية الثالثة التي بدأت متعثرة، وهذه فترة لا يمكن الحكم عليها على الإطلاق.
} الأحزاب هي المسؤولة عن إخفاق التجربتين الديمقراطيتين عبر ممارساتها هي.. ألا تتفق معي في ذلك؟
– اليسار حينما أتى في (مايو) أعلن أنه قضى على (الطائفية) والأحزاب التقليدية، وحينما جاءت الانتخابات لاحقاً اكتشف الناس بمن فيهم المشككون من هذه الأحزاب نفسها وبأنها ما عادت موجودة اكتشفوا أنها القوة الكبيرة، وأن أكبر قوتين هما الحزب الاتحادي وحزب الأمة.. بعد (16) عاماً من الدكتاتورية، لا يمكن أن تطالب تنظيماً سياسياً مدمراً ومفككاً وكان يعيش (تحت الأرض) أن يأتي وفي خلال عامين يلملم أطرافه ويخلق الديمقراطية.. أعتقد أن أي شخص يزايد بأن الديمقراطية الثالثة كانت تناحراً وخلافه، فهذا الشخص لا ينظر للأمور بواقعية، فلا يمكن بعد أي تغيير أن يأتيك واقع مثالي، ولكنك بالمقابل مطالب بالصبر على هذا الواقع حتى يتطور، وبالفعل بدأ ذلك الواقع في التطور.
} لماذا إذاً عبر “الشريف زين العابدين الهندي” عن الفترة الديمقراطية بمقولته الشهيرة تلك (لو شالها كلب ما أقول ليهو جر)؟
– كلام “الشريف زين العابدين” له الرحمة والمغفرة يعبر عن حالة إحباط، فهو رجل أديب ورقيق الشعور، وبالتالي فإن تعبيره عن الأشياء دائماً ما يكون عاطفياً بعكس “الشريف حسين” بشخصيته السياسية القوية.. تعبير “الشريف زين العابدين” تم تحميله بأكثر مما يحتمل، ووجدوا فيه مبررات في العام 1989م، ولكن تعبير الرجل كان تعبيراً أدبياً، أكثر مما هو سياسي، هو كان يتحدث عن أننا إن لم ننقذ (الديمقراطية) فإننا سنصل إلى حالة من الشلل بحيث إذا ما جاء طرف أو انقلاب فلن يكون لدينا تصرف، وهذه حقيقة، فجاء انقلاب 1989م حيث فرض اليمين أو الإسلام السياسي الأمر الواقع، وبدأنا مرحلة مختلفة تماماً عن كل ما سبقها.
} كيف؟
– بدأ بالإقصاء الكامل للآخرين، وانتهج سياسات خارجية قائمة على بعد (أيديولوجي) بحت، وليست قائمة على مصلحة السودان، فكانت أول ضربة للسودان خارجياً هي تأييد احتلال العراق للكويت، وكانت تلك قراءة خاطئة للواقع العالمي، حيث تخيلوا أن العراق سيكمل ما بدأه وبالتالي يستفيدون من هذا الواقع الجديد، بالإضافة إلى استعدائهم الدول العربية ومحاولات التغيير.. أما الكارثة الكبرى في تاريخ السودان فكانت (المؤتمر العربي الشعبي الإسلامي)، فالنظام في ذلك الوقت جاءه (وهم) بأنه ما دام استطاع أحداث التغيير داخل السودان الذي نسي أنه أحدثه عبر انقلاب عسكري وليس عبر قوة سلمية، أنه يمكن أن يقود الخلافة الإسلامية في الدنيا، ويصبح مركز الاستقطاب الحضاري الإسلامي، وتصبح دولته هي الدولة الرسالية، بحيث ظهرت أفكار.. وللأسف، السودانيون إلى درجة كبيرة لديهم استعداد كبير للتفاعل مع الأفكار العاطفية (الديماغوغية)، لأناس يعدّون من النخبة، والشعب السوداني بطبيعته التأثير الديني فيه كبير.. لقد عاش السودان وقتها حالة أكبر من وجوده، واستمرت هذه الحالة، لكنها بدأت تصطدم بوقائع فظهر موضوع (الإرهاب) وحصار السودان، والحكومة كانت في حالة إنكار وتقول إن السودان مستهدف، وهذه نتيجة لتوجهنا الإسلامي وهكذا، كما استمرت كذلك الحرب في الجنوب، واستمر هذا الواقع حتى المفاصلة بين الإسلاميين داخل الحركة الإسلامية، وظهر عامل البترول كعامل جديد.. وظهور النفط بكل أسف هو الذي أعطى كل الأحلام والآمال في الرخاء.. وللأسف (مُش الحكومة بس الإتغشت بي البترول الشعب ذاتو إتغش)، فعاش الناس أحلام البترول والرفاهية.. في التسعينيات تم تدمير المشاريع الاقتصادية والزراعية الأساسية، وبعد ظهور البترول أصبح هناك عدم اكتراث كامل وتم التدمير، وكان المنطق (إنتو يا أحزاب وقوى قديمة مسيطرين على وسائل الإنتاج أهو نحن مسيطرين عليها)، وعبر تدمير الآخر تم تدمير وسائل الإنتاج الخاصة بالمجتمع السوداني، وتم الاعتماد على البترول بصورة كاملة، والاعتماد على أموال النفط ذاتها في خلق تسويات سياسية، ومساومات سياسية، وبدأ التعامل مع اللاعبين الدوليين بطريقة مختلفة، حتى أنه بدأت تحدث تغييرات في سياستنا الأمنية، وبدأ يحدث تعامل مع الأجهزة العالمية.
} ماذا يعني ذلك؟
– للأسف، لم يكن هنالك إدراك من قبل الحكومة بأن هنالك قوة عالمية أصبحت تقود المسألة، هذه القوة قادت لـ(نيفاشا) بسذاجة من الحكومة، التي كانت تظن أن ثمن الانفصال هو السلام، وفي هذه الحالة سيظل النفط موجوداً، وكذا، أنا لست من الذين ينكرون وجود مؤامرات خارجية أو يثبتونها، بل بالعكس، فالعلاقات الدولية هي عبارة عن علاقات تآمرية، والسودان ذاته كان طرفاً في التآمر على دول من حوله، هذا أمر طبيعي، وشيء طبيعي أن الدول العظمى لها مصالح هنا، لكن الحكومة مهمتها الحفاظ على الدولة من التآمر الذي يجري، وليس الانسياق له، ولكن أن تنساق له بدعوى أنك تريد محاربتهم فتلك هي (المصيبة) الأكبر.. ووصلنا (نيفاشا) التي أعدّها الكارثة الأعظم في تاريخ السودان، لأنها قادت لأول تغيير نوعي وكمي في الدولة نفسها.
} البعض يعدّ (نيفاشا) من أعظم إنجازات هذه الحكومة لأنها قادت إلى السلام بغض النظر عن انفصال الجنوب؟
– هذا ما أسميه (وهم نيفاشا) الذي يقول إن ضريبة الانفصال هي السلام، وللأسف للمرة الثانية هنالك من انخدع بذلك.. جزء كبير من الشعب السوداني خُدع بذلك، فهنا يتم تنفيذ أحندة بوعي أو بدون وعي.. لماذا يحتج الناس على الغلاء ولم يحتجوا على انفصال الجنوب؟ هذه كارثة أكبر من رفع الدعم عن المحروقات، لأنه خلق تغيراً بنيوياً في الدولة، وأية دولة في العالم لديها خطوط للأمن القومي.