(6) أكتوبر.. العبور العظيم
كنت في ظهر يوم السادس من أكتوبر عام 1973 متواجداً داخل مبني محافظة الإسكندرية بمناسبة حصولي علي المركز الأول على طلاب المحافظة في إمتحان الثانوية العامة، وقبل صعودنا إلى مكتب المحافظ فوجئت بقاعة الإستقبال تصدح بأصوات جماهيرية عالية، لم أتمالك نفسي عن مشاركتها بالهتاف (الله أكبر) حيث كان راديو القاهرة يعلن البيان الأول للقيادة العامة للقوات المسلحة المصرية الباسلة، لقد عبر جنود مصر البواسل قناة السويس، وبدأت ملحمة العبور المصري المُشرف، الذي رفع رأس مصر والعالم العربي كله إلى عَنانِ السماء.
ففي حياة الأمم والشعوب لحظاتٌ لا تُنسى، لحظاتٌ تتجلىَّ فيها إرادة الله العلي القدير، بفضل رجالٍ صَدقوا ما عاهدوا اللهَ عليهِ فَصَدَقَهُمُ الله، وأتاهم نصره المُبين فتحررت الأرض، واستُعيدت الكرامة والعزة والوطنية بأعلى وأقدس معانيها..
إنها لحظات النصر، نصر العاشر من رمضان، السادس من أكتوبر، الساعة الثانية بعد الظهر، في عز الظُهر، عَبَرَ الأبطال يَحمِلونَ أرواحهم على أكُفهم يطلبون إحدى الحُسنيين: النصر أو الشهادة، فظللتهم رعايةُ الله وحِفظه وأمدهم اللهُ بمددٍ مِن عنده، «ومَا يعلمُ جنودَ ربِكَ إلا هو».. صدق الله العظيم.
نتذكر في هذا اليوم الأغرّْ، قائد النصر، بطل الحرب والسلام، الرئيس الراحل «محمد أنور السادات»، ابن (ميت أبوالكوم) بمحافظة المنوفية، الذي أدار المعركة مِنْ قبل بدايتها بحكمةٍ واقتدار، وحتى نهايتها بإرادةٍ صَلبة لا تعرف اللين أو التهاون أو التفريط أو التسليم، إرادةٌ تُقدِسُ المُقدس، وتصونه من أن يُمسّْ، أو مجرد الإقتراب منه..
رحمه الله، محمد أنور السادات، رحمةً واسعةً، بقدر ما أعطى لأمته ووطنه، وبقدر ما لقنَّ الأعداء من درسٍ، لا، بل مِنْ دروسٍ، لن يَنسوهَا ما كانت لهم حياة، لقد ابتكر السادات رَحِمَهُ الله، أدواتٍ جديدةٍ لإدارة الصراع، لمْ يستوعِبها الكثير منا وقتها..
سوفَ تظل سيرةُ الرئيس الراحل محمد أنور السادات، كتابٌ مفتوح، سطره الرئيس الشهيد باسمه بعنوان (البحث عن الذات)، ليمثل نبراساً للباحثين عن الحقيقة، والدارسين في العلوم السياسية، وإدارة الصراع..
نجح الرئيس السادات رحمه الله، قبل أن يبدأ المعركة في أن يصطلح مع الله، ويحقق الصلح بين المجتمع والدولة حين رفع شعار دولة العلم والإيمان، نجح السادات في صياغة نظرية جديدة للإعلام تتعامل مع المعركة المقبلة، كما نجح بالتالي وإجمالاً في وضع الخطة الإستراتيجية للمعركة، إلى الحدِ الذي كانت قد استيقنت فيه إسرائيل بأن مصر أصبحت جثة هامدة، لا ولن تتحرك..
حينها تحرك المارد، وهو يُزمجر ويَهدِر ويشُق مياه القناة من الغرب إلى الشرق وفي عز الظهر، ليرفع علم مصر على أرض سيناء الحبيبة، والذي بعون الله سوف يظل يرفرف .. و»لن ينتكس أبدا».. رحمك الله ياسادات..
تقتضي منا الأمانة، أن نذكر بالعرفان والتقدير كل وجميع قادة حرب أكتوبر العِظام، الذين حملوا هموم الوطن في أشد الظروف قساوةً، وشدة، فما تلكأوا أو تباطاوا، بل تسابقوا وتنافسوا حول محراب الوطن، وكم من وطنٍ يملكه الإنسان في حياته، أو ليس وطنٌ واحد، إن هؤلاء الأبطال تركوا لنا سيرةً عَطِرة، وأنموذج قائد ورائد نقتفي أثره عبر التاريخ، رحمهم الله أحياءً وأمواتاً، وجزاهم الله خير الجزاء في الدنيا والآخرة.
خيرُ ما أختتم به مقالي هذا، هو العرفان والجميل الذي لن يَنساهُ شعب مصر العظيم وقياداته على مر التاريخ لأشقائنا العرب، وفي الصدارة منه شعب ودولة السودان الشقيق، إخواننا في جنوب وادي النيل، الذين تضامنوا معنا دوماً، وشاركونا في المُلِمات قبل الإبتهاجات..
لقد وقف السودان طوال عمره وتاريخه، على قلب رجل واحد مع مصر، مصر الوطن والدولة والتاريخ، إيماناً بأنه العمق الإستراتيجي لمصر في الجنوب، وأن مصر لا تُؤتى أبداً من جنوبها بعون الله أولاً، ثم بصلابة الرجال ثانياً..
لقد وقف السودان وقفة العز والشموخ والصِدق والإباء مع مصر الرائدة والقائدة، داعماً ومُعضِداً وناصراً أميناً لقضايا أمته على مر التاريخ .. لَسنا في حاجةٍ إلى تِعدادِ مواقف، لأننا بصدد ثُنائيةٍ أكثر وأكبر وأجلّْ من ذلك..
لقد اختلطت الدماء، وتمازجت، وتناسجت الرؤى والأحلام والآمال والطموحات، وها نحن على أبواب آمالٍ مُشرقة بفضل الله تعالي، تحمل الخير إلى كلينا في الجنوب والشمال، تتحقق فيها طَفَرَات وإنجازات نرجوها، آن لها أن تُنفذ على أرض الواقع، ولن تدخرً قيادتا البلدين جهدا لتحقيقها.. بإذن الله تعالى.