من وراء العنف والتعدي على ممتلكات المواطنين؟!
لماذا اتخذت الاحتجاجات والتظاهرات التي اندلعت عقب إعلان القرارات الاقتصادية منحى عنيفاً.. تخريب المنشآت العامة.. حرق سيارات المواطنين.. نهب المتاجر.. التعدي على طلمبات الوقود.. السطو على نوافذ الصرافات الآلية في الأحياء السكنية.. حرق إطارات السيارات في الشوارع العامة؟؟! علامات استفهام عديدة وتساؤلات بلا إجابة عن دوافع العنف الكامنة في نفوس المتظاهرين، ليس ضد السلطة، وإنما لكل ممتلكات المواطنين، حتى تبدى للمراقب أن الخرطوم أصبحت تحت رحمة النهابين وعصابات الشفتة.. وقطاع الطرق.. واختفت كل مظاهر التنظيمات السياسية والنقابية التي تقود الاحتجاجات، فالتظاهرات حق كفله القانون والدستور، والتخريب والعنف سلوك يدينه القانون ويحظره الدستور!! هل ما حدث في ولاية الخرطوم سلوك سياسي راشد؟ أم الأحزاب والتنظيمات السياسية أصبحت مجرد (أبواق) ومظاهر صوتية تتحدث في وسائل الإعلام فقط ولا أثر لها في الشارع؟؟ وهل يستطيع حزب معارض تبني التخريب والسطو والنهب وحرق سيارات الأهالي؟ وأين حزب المؤتمر الوطني الحاكم والأحياء الشعبية في أم درمان والأزهري والكلاكلة والدروشاب (يحتلها) شباب صغار في السن تتراوح أعمارهم ما بين (15) إلى (20) سنة يغلقون الطرقات بغصون الأشجار، ويحرقون إطارات السيارات، والنسوة يخرجن من (بيوتهن) لإطلاق الزغاريد وتحريض المنفلتين على المضي في التخريب؟!
التظاهرة الوحيدة التي بدأت منظمة وحضارية خرجت من كلية التربية بأم درمان واتخذت مساراً لها بشارع الوادي لتتجه شمالاً بدلاً عن التوجه جنوباً.. المتظاهرون كانوا يهتفون بسقوط النظام والشرطة تحمي المتاجر والبقالات ولم تتعرض للمتظاهرين بإطلاق الأعيرة النارية (المميتة) أو (البمبان) حتى اقتربت من محطة (المهداوي) لينضم إليها آخرون وتبدأ عمليات الكر والفر وتقصف الشرطة بالحجارة، وتم نهب بعض المتاجر، لتتصدى الشرطة بعد ذلك للتظاهرة و(تفرقها)!! أما دون ذلك فقد خرجت التظاهرات في الأحياء السكنية وانحرفت عن مسار الاحتجاج ورفض القرارات إلى العنف الشديد والسلب والنهب والتخريب.
{ لماذا هذا العنف؟
بات العنف يهدد حياة السودانيين في كل مكان، حروب وصراعات في الأطراف.. ونزاعات قبلية عنيفة جداً تهلك مئات الأنفس في أي موقع نزاع حول قضية ما.. ولكن الخرطوم تبدت فيها مظاهر خطيرة جداً.. فإذا كانت أحداث مقتل «جون قرنق» قبل ثماني سنوات من الآن قد شهدت أسوأ أعمال الإقصاء والسلب والنهب والحقد الطبقي والاحتقانات العنصرية والجهوية وتحمل الجنوبيين وزر تلك الأحداث، فإن ما شهدته الخرطوم منتصف الأسبوع قبل الماضي من أحداث ينبغي الوقوف عندها طويلاً، ودراسة الأسباب ودواعي الاحتقانات (الطبقية) والأحقاد الدفينة من قبل البعض لكل من يملك حتى دكاناً صغيراً في حي فقير ويستهدف من قبل البعض، ومن يقود (ركشة) لا يزيد ثمنها عن (15) ألف جنيه هو مستهدف.. فهل الانقسام الذي حدث في المجتمع واعترف به حتى الرئيس «عمر البشير» بأن المجتمع أصبح طبقتين إحداهما مترفة تملك القدرة على شراء أية سلعة بأي ثمن وأخرى لا تملك القدرة على شراء الخبز الحاف هو السبب وراء العنف الذي تفشى والأحقاد التي تسود الآن؟؟ ولماذا أصبحت أطراف المدن حاضنة للفقراء والمسحوقين و(اليائسين) من الحاضر والمستقبل ممن لفظتهم مناطق النزاعات والحروب إلى قلب الخرطوم (مكرمين) فأصبحوا (ناقمين) على السلطة وينظرون إلى كل من كد وكدح وشيد لأسرته منزلاً بعين السخط والحسد، وتفشى في أوساطنا الاجتماعية الغل وشح النفس والبهتان.. وبات الانتماء السياسي والالتزام الفكري ضعيفاً.. والحكومة تباهي بعدد المساجد وكثرة روادها من عامة الناس، ولكن ما يحدث في الشارع من أحقاد وضغائن ينذر بكارثة قادمة.. وفي عقد التسعينيات وقبل خروجه أو إخراجه من السلطة حذر د. «حسن الترابي» من غضب الطبقات الاجتماعية الفقيرة على الأثرياء، وقد تبدى ذلك الآن وأحد العاملين في سوق الفتيحاب المربعات يشكو من تعدي المتظاهرين على (تربيزة طعمية) تعيش عليها أسرته تم تحطيمها ونهب (ملوة) من (الكبكي) كانت مخبأة في أدراج الطاولة!
{ الحزمة القادمة
القرارات الاقتصادية التي اتخذتها الحكومة هي خيار من لا خيار له.. وكان الرئيس «عمر البشير» أكثر صراحة من الطاقم الاقتصادي حينما تحدث للطلاب والمرأة من خلال المؤتمر الصافي الأخير بأن ما أقبلت عليه الحكومة من إجراءات يمثل نصف الحل، ولا يزال جالون البنزين مدعوماً بمبلغ (10) جنيهات، وربما زاد دعم جالون الجازولين عن (15) جنيهاً إضافة إلى دعم الدقيق والكهرباء والمياه والغاز، ولن تكتب العافية لاقتصاد السودان ويصبح حقاً اقتصاد سوق حر إلا برفع الدولة يدها عن رسم السلع الاستهلاكية نهائياً!! والمجلس الوطني عندما أجاز حزمة الإصلاح الاقتصادي والبرنامج الثلاثي وضع نصب عينيه التدرج في التطبيق ورفع الدعم خطوة بعد الأخرى.. فهل تستطيع الحكومة بعد الآثار السالبة والمضاعفات التي ترتبت على تطبيق الوجه الأول من سياسات الإصلاح الاقتصادي الإقبال على إنفاذ الحزمة الثانية التي ربما اضطرت إليها قبل انقضاء العام الجاري إذا كانت الحزمة الأولى تمت مواجهتها بالرفض الشعبي.. ولكن التيار الذي خرج إلى الشوارع يشكل الشباب غالبيته، خاصة الطلاب والخريجين الجالسين في أرصفة الشوارع يندبون حظوظهم العاثرة وضياع مستقبلهم بعد أن ضاق سوق العمل وبات السودان غير مرغوب في وجوده بالدول العربية إلا الكفاءات العلمية النادرة من الأطباء والمهندسين.. وأصبحت الجامعات (تفرخ) سنوياً آلاف الطلاب ولا يجدون وظائف في القطاع الحكومي والخاص وهؤلاء يمثلون رصيداً ينتظر الاستثمار.. وليت الأحزاب فكرت وقدرت أن تستثمر هؤلاء الشباب العاطلين في الانتخابات وليس في التظاهرات وأعمال الشغب والعنف والتخريب.. وهل للحكومة بديل موضوعي يمكن استغلاله لتفادي العمليات الجراحية الصعبة؟؟
نعم، يمثل النصف الآخر من المعالجات الاقتصادية خياراً صعباً قد يدفع بالشعب للخروج في تظاهرات غير التي شهدتها العاصمة خلال الأسبوع قبل الماضي وأمام الحكومة خيارات عديدة ودروب سهلة وقد تفضي بها إلى مخرج صدق بدلاً عن الدروب الشائكة والخيارات المحفوفة بالمخاطر.. فالدولة السودانية في حال سقوط النظام الحالي معرضة للتصدع والفوضى العارمة، وقد يتمزق ما تبقى من الوطن إلى دويلات عديدة، حيث تغيب عن الساحة القوى السياسية المنظمة القادرة على الحفاظ على الدولة السودانية الموروثة على قيد الحياة.. فما هي الخيارات المثلى والدروب الآمنة التي يمكن للإنقاذ أن تسلكها؟؟
{ السلام والتفاوض
الخيار الأول والسهل جداً والموضوعي أمام الحكومة، أن تتجه بصدق وإرادة موحدة نحو تحقيق السلام في البلاد ووقف الحرب الدائرة حالياً.. وهي لا تستطيع حتى الحكومة تقدير مصروفاتها اليومية من الدولارات الأمريكية لأنها حرب عصابات تنشب فجأة هنا.. وغداً هناك.. ولكن ما هو متفق عليه أن الحرب قادرة على امتصاص كل عائدات البترول حتى لو بلغ الإنتاج (500) ألف برميل في اليوم، فمشتريات الأسلحة والذخائر كفيلة بالقضاء عليه.. وفي ظل الحرب الحالية لن تستقر العلاقة مع دولة جنوب حتى لو اتخذ «سلفاكير» عشرات القرارات وحظر نشاط الحركة الشعبية قطاع الشمال وسرح جنود وضباط الفرقتين التاسعة والعاشرة، فالجنوب إذا نجح في حل مشاكله الخاصة يشكر على ذلك ومشاكل السودان ينبغي أن يحلها السودانيون.. ولكن هل تملك الحكومة إرادة ورغبة وقدرة على دفع استحقاقات وقف الحرب؟؟
إن التيارات التي تراهن على البندقية وحدها لحسم الصراع تدفع الرئيس «البشير» للسير على حافة الهاوية حتى يسقط نظامه وتستأثر هي بالنظام.. هؤلاء يحسبون مصالحهم الخاصة ووجودهم في مفاصل السلطة على حساب الأغلبية من الشعب.. وخيار وقف الحرب قليل التكلفة وسهل جداً إذا اقتنعت القيادة السياسية بأن استمرار الحرب يمثل خطراً حقيقياً على وجودها، وأن البلاد مقبلة على أيام صعبة في حال تصاعد العمليات العسكرية.. صحيح أن الجبهة الثورية وقطاع الشمال لن يبلغا مقاصدهما ولن تصل الجبهة إلى السلطة عبر فوهة البندقية حتى لو وصلت قواتها إلى قلب أم درمان والخرطوم، ووجود قوات مسلحة مدربة ومؤهلة ولها إرث قتالي وثقافة في الحروب يمثل ضمانة حقيقية.. ولكن الاستنزاف الاقتصادي يبدد قدرات البلاد وثرواتها في حرب لا منتصر فيها.. والشعب السوداني الذي أرهقته الحروب وفتت من عضده الأزمات الاقتصادية وطحنه البؤس والفقر، قد لا يصبر أكثر من صبره الحالي، خاصة والخطاب الحكومي العام محبط للهمم ومقعد، ولا أمل في غدٍ مشرق ولا سلام قادم، وقد يدفعه هذا لليأس والانتحار في قارعة الطريق.
{ الحل السياسي
القضية الاقتصادية وجه اقتصادي مجرد.. ووجه أمني يتمثل في الإنفاق على الحرب المهلكة في الأطراف.. والوجه الثالث والأخير هو الحل السياسي الذي قد يغني عن كثير من الرهق والمتاعب، وقد قطعت الحكومة شوطاً كبيراً في التوافق السياسي مع القوى المعارضة الرئيسية ممثلة في حزب الأمة والاتحادي الديمقراطي.. ولولا وقفة السيدين «الميرغني» و»الصادق المهدي» الوطنية الصادقة مع المؤتمر الوطني في الأزمة الحالية لتصاعدت الاحتجاجات أكثر، واستعصى على الحكومة كبح جماح التفلت والعصيان في الشوارع، وقد أثبت السيد «الصادق المهدي» أنه سياسي كبير وقائد محترم حينما أدان علناً دون وجل وخوف أعمال الشغب والتخريب وانحاز لصالح التعبير السلمي والاحتجاج الموضوعي، وقال بنبرة واضحة إن القرارات الاقتصادية أملتها ضرورة تصحيح مسار الاقتصاد، بينما أصدر السيد «محمد عثمان الميرغني» بياناً أعلن فيه تأييد الحزب الاتحادي للقرارات الاقتصادية.. صحيح أن «الميرغني» غادر إلى لندن عشية اندلاع التظاهرات في الخرطوم، لكن الحزب الاتحادي كحزب وقف إلى جانب المؤتمر الوطني بصلابة، ومواقف الحزبين الكبيرين لا تغني عن ضرورة أن تتقدم الحكومة خطوات نحو بقية مكونات المعارضة من الشعبي والبعثيين والشيوعيين إضافة إلى القوى التي تحمل السلاح، للتراضي على دستور جديد وانتخابات جديدة في عام 2015م يخوضها المؤتمر الوطني وفق رؤية جديدة تجعل للقوى المعارضة وجوداً داخل البرلمان.
{ أين شباب الوطني؟؟
للمؤتمر الوطني أمانة خاصة بالشباب تحظى بإنفاق نصف ميزانية الحزب، وترابط أمام بناية الأمانة مئات السيارات حتى يخيل إلى زائرها أنها شركة خاصة بتمليك السيارات، ولكن الشباب الذي شاهده الرأي العام يخرب المنشآت ويعتدي على ممتلكات الأهالي (شباب غير).. هؤلاء من خرجوا بالآلاف يوم وفاة المطرب «محمود عبد العزيز» واقتحموا مطار الخرطوم عنوة وتناثروا في مدرجات المطار وحطموا البوابات وهشموا زجاج الطائرة الوحيدة التي تستأجرها شركة الخطوط الجوية السودانية وأطلق عليها عباقرة المشروع الحضاري اسم ناقة الرسول «صلى الله عليه وسلم» لينالها حجر من شاب غاضب ويهشم زجاج الطائرة (القصواء).. هل أصبح تنظيم شباب المؤتمر الوطني فوقياً لا وجود له في الأحياء السكنية، وجيل جديد من المحبطين واليائسين يقود الشباب الذي كان وقوداً لأعمال التخريب والفوضى؟ أم شغلت قيادات شباب الوطني الرحلات الخارجية والأسفار والترحال من البرازيل حتى ماليزيا.. ومن جنوب أفريقيا حتى بلاد الإسكيمو عن (تغبر) أقدامهم في أحياء أمبدة والدخينات، وكان لشباب الإسلاميين في السنوات ما قبل خروج النفط الفضل في نصرة الإنقاذ وحماية ظهرها، وهم من تقدموا كتائب القتال في مقوي ومريدي وفرجوك وتلشي وخور الدليب.. أين هم الآن والشيوعيون والعنصريون وشباب يرتدي (البردلوبة)- (الأردية القصيرة)- ويحمل العصي يخرب المنشآت العامة، ولا يخرج شباب المؤتمر الوطني إلا تحت عباءة السلطة والأجهزة الرسمية؟ ماذا يفعل المهندس «السني» وطاقمه القيادي في أمانة الشباب وقد بلغ هؤلاء من الكبر عتياً؟!
وللحديث بقية في مقبل الأيام