أخبار

أيها التلميذ المطيع!!

الأخبار هي الأخبار.. العالم ما زال يقتتل على اللا شيء.. والقانون الدولي يواصل عجزه في فض اشتباك الهواء مع الماء.. الأمم المتحدة يربكها خلط الأوراق والموازين ولا تعرف كيف تعيد للكون هيبته وهدوءه وسكينته.. بينما القوى العظمى تروج للرعب وتناطح ظلها على الأرض.. ثقب الأوزون يتسع.. والعولمة تكتسح.. ومثقفو العالم ومفكروه يتجادلون حول ما إذا كانت الحضارات تتصارع أم تتحاور، في الوقت الذي ترقص فيه الفضائيات على إيقاع أغنية (البرتقالة) و(الرمانة).. لهاث كوني غريب حول قطب مغنطيسي واحد يفقد الكوكب الأرضي توازنه، ويربك عودة النوارس الآمنة إلى شواطئ الحلم الأول.
كل شيء في العالم أصبح قابلاً للانفجار والاختطاف والمساومة.. وكل شيء بات على قاب قوسين أو أدنى من السقوط في فخ فوضى اللا معقول والعبث.. ولو عاش “صموئيل بيكيت” حتى الآن لما ذهب به خياله أبعد مما انتهى إليه العالم ليكون بذلك أصدق مفكر (واقعي) وليس عبثياً خارجاً على العقل والمنطق.
ولأن المتاهة تجعل الأعين مفتوحة على مغبتها ومحنتها فلا بأس من ركوب الموجة والاحتماء بمظلة (لا أرى.. لا أسمع.. لا أتكلم).. أو الدخول في نوم عميق لا تشرق بعده الشمس.. الشمس التي كلما أطلت نثرت ضمن خيوطها استفهاماً بحجم الكرة الأرضية: متى يتصالح العالم مع نفسه؟! متى يغادر ثكنات العسكر وخندق الحرب إلى حقول الزرع وفسحات الأمل؟! ومتى يعود السلام حاملاً وردة الحب وزهرة الأمان؟!!.. كلام إنشائي لا يصلح لتمرير تلميذ في مراحل دراسته الأولى.. فالذين يضعون أسئلة مادة (التعبير) لا يحتفون بهذا النوع من الإطناب في الخيال والإمعان في الحلم.. التعبير أيها التلميذ النجيب أن لا تقترب من الأماكن التي يمنع تصويرها وأن لا تنظر أبعد من أنفك!!
يقول له: كثيرون يموتون بلا جريرة.. وكثيرون يعاقبون جماعياً على ما اقترفه غيرهم، يرد عليه: أنا لا أقرأ ولا أسمع ولا أشاهد الأخبار ولا أعرف ما الذي يدور في العالم و.. يقاطعه: لا يريدون أن يكون العالم بخير.. يشوشون على ذاكرتنا ويقلقون مناماتنا.. يستوضحه: من هم؟! يجيب: لا أعرف!!
لا أعرف.. الإجابة التي جعلت العالم يعرف بعضاً مما كان يجهله.. بها تعرف على قانون الجاذبية الأرضية ووصل إلى المريخ والقمر واكتشف الكهرباء وصنع الهاتف والسيارة دون أن يتذمر لاحقاً من دفع فاتورة الأقساط والاستهلاك.. ثقافة الاستهلاك أيها التلميذ المطيع أن لا تتذمر.. أن لا تعرف كيف تصطاد السمكة بل كيف تأكلها وتستمتع بمذاقها.. ما شأنك إن كانت طازجة أم لا؟! هل تصلك أخبار العالم طازجة؟! أنت آخر من يعلم دائماً.. وما تعلمه ليس بالضرورة أن يكون هو الحقيقة أو مثقال ذرة منها!!
(الحقيقة) وما أدراك يا صديقي ما الحقيقة؟! حيرت “أرسطو” و”أفلاطون” وأربكت كل الفلاسفة.. لكن ربما أدركها الشعراء الذين يهيمون على وجوههم بحثاً عن نقيضها كيما يتباهون بأجمل شعر الوصف ملفوفاً بـ(سولفان) الكذب.. أما “شهرزاد” أشهر قاصة في التاريخ فما زالت تروي حكايتها الألف دون أن تكتشف حقيقة “شهريار” الذي تقول بعض الروايات إنه كان أصماً ولم يسمع مما سردته عليه شيئاً.
قناة (إخبارية) فضائية جديدة تعلن عن انطلاقها.. أيها التلميذ النجيب الامتحانات على الأبواب.. لا تجلس أمام التلفاز.. ما شأنك والأخبار.. هل تفهم شيئاً من حوار الطرشان وصراع الديكة؟! إنهم ينقلون صورة مشوهة وقاتمة للواقع ويمارسون بتلذذ عجيب جلد الذات.. علينا أن لا ننظر للجزء الفارغ من الكوب فقط.. لو تابعت هذه الأخبار لن تذاكر ولن تنجح في الامتحان لأنك لن تجد دافعاً للعيش والحياة..!!
العيش يا صديقي والحياة.. لقمة العيش تعلمك الصمت والسير قرب الحائط ولا ضير من تقديم بعض التنازلات.. الدول يا عزيزي بكل هيبتها تقدم بعض التنازلات تحت شعار المصالح المتبادلة.. دعنا نكمل حكاية (النملة) التي دخلت الجحر ثم خرجت ولم تعد!!
حكاية العالم باختصار أيها التلميذ النبيه: حين تغني “روبي” أو ترقص “شاكيرا” أو تتخاصم “عجرم” فليس مهماً أن تعرف من أين تشرق الشمس ومن أين تغيب ولماذا يصرخ الطفل حين يأتي للحياة في غفلة من الحاسوب الذي لم يفرد لهذا القادم الجديد موقعاً في العالم الأول أو الثاني أو.. ربما أسقطه من القائمة؟!!
القائمة.. ما أطول القائمة يا صديقي حين تنوي السفر من عالم إلى عالم.. قبل جواز السفر عليك إثبات أنك لم تكن في لحظة عابرة عدو نفسك وليس عدو ما تجهل، وأن نوافذك مفتوحة لهم كيما يعيدوا صياغة عقلك وقلبك وأن لا وطن لك سوى الذي تدخله بتأشيرة مدموغة تختم على صورتك التي ذابت ملامحها في جليد مطارات المنفى والشتات.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية