د. الخضر (طبعة جديدة)
البعض يتعامل مع الأزمات والمحن وطارئات الأحداث بقدر عالٍ من التشاؤم الذي يسقط عنه سوانح الإفادة من الواقعة بأكملها لصالح تطوير التجربة مستقبلاً، ومثل هذا لا يستفيد من الدروس ولا يأخذ العبر في مجراها السليم، مجرى الإجادة وسد الثغرات وتقوية مظان القوة، وعليه أدعو لتأمل واقعنا الحالي بأبعاده السالبة والموجبة معاً، بحيث لا نركن إلى أن الأمر شرٌ مطلق، لأنه من بين ثنايا الشر يتبيَّن الناس معالم الخير والحق، وكل أمر المؤمنين خير طالما أنهم أدركوا الصحيح من الموقف، وطالما أنهم عرفوا فلزموا.
إنَّ ولاية الخرطوم تعرضت مؤخراً لهزة عنيفة، وتحملت عن الحكومة الاتحادية ساعات اختبار قاسية، ودفعت من مؤسساتها وممتلكاتها وممتلكات مواطنيها فاتورة باهظة عوضاً ربما عن بقية الولايات، لكنها في تقديري تجاوزت بامتياز فترة العسرة بسلاسة لم يكن حتى أحسن المتفائلين يتوقعها، والشاهد أن التطورات الماضية قدمت الدكتور “عبد الرحمن الخضر” والي ولاية الخرطوم في (طبعة جديدة) فالرجل الذي حاصرته وحكومته أزمة السيول والأمطار بأضرارها المادية والمعنوية اضطرته الظروف والاختصاص والجغرافيا لمواجهة ابتلاء الاحتجاجات الأخيرة التي تعامل معها سياسياً بروح عالية وخطاب منضبط لم يجنح فيه الوالي لدلق الاتهامات واللعنات، وإنما ركز فيه على ثوابت التعايش والتنمية وديمومة الخدمات، فيما اتسم أداؤه الإعلامي بالدقة والاعتماد على لغة الإحصائيات المصنفة للخسائر عاصماً نفسه عن أي هتر لفظي وإفادات مرتبكة بقدر كسب فيه مؤيدين من فضاء الإنترنت (المصنف خطأ بأنه عدو للحكومة) بكونه صوتاً عاقلاً ومسئولاً ليقلب “الخضر” الكفة لصالحه، بعد أن كان هو نفسه طلبة بعض المجموعات في حلقات مواقع التواصل الاجتماعي التي شيدت منصات لجمع التوقيعات المطالبة بإقالته عقب سيول مرابيع ود الشريف والفتح !
حكومة ولاية الخرطوم أظهرت قدرات كبيرة على امتصاص الصدمة إذ بعد ساعات من ذروة انعقاد الأزمة استطاعت الولاية أن تضبط إيقاع الحياة بتوفر الخدمات الضرورية من مياه وكهرباء ومواصلات شهدت وفرة في الخطوط كافة، كما انتظم العمل في انسياب إمدادات المخابز للمواطنين باحتياجاتهم، وفتحت الأسواق وانتظم إيقاع الحياة بشكل راتب دونما مناشدات أو تدخلات رسمية، وكلها مؤشرات إيجابية يجب أن تؤخذ في الاعتبار، وقد أعانها في ذلك حسب تقديري بروز جوانب مشرقة وروح تعاون وتكافل رائعة بين المواطنين تجلت حين برزت صفوف السيارات في محطات الوقود إذ تقاسم الحاضرون الخدمة المقدمة بتعاون كبير نظم فيه المواطنون أنفسهم بل تحولت دقائق الانتظار لمنابر وبرلمانات شعبية أدارت نقاشات واعية حول مآلات الأمور وبعدل وإنصاف تم فيه انتقاد الحكومة بموضوعية وتصويبها بأمانة، كما حفظ لها البعض قدرها دون جنوح للتجريح والإثارة الضارة.
الخطوة التالية المطلوبة من حكومة (الخضر) النزول إلى الناس بالخدمات و(المسئولين) فالشاهد أن تواصل الوالي مع المواطنين يبدو أكثر حيوية من تواصل بقية الوزراء والمعتمدون، كما أن الهزة الأخيرة تتطلب أن تبذل جهوداً أكبر في (تطبيع) الحياة وإزالة هواجس الترقب والانتظار وهذا (منشط) إعلامي وثقافي وخدمي قبل هذا.