كيف يمكن أن نأكل مما نزرع؟! (1)
} جاء في الأخبار أن الحكومة وعدت بتقديم تسهيلات جديدة للاستثمارات والمستثمرين الصينيين في السودان، وأعلنت أنها ستوجه العائد من عبور نفط الجنوب لمساعدة الشركات الصينية على تحويل أرباحها بالعملة الحرة.. هذا الخبر أعادني إلى أيام الثورة الأولى عندما كل واحد منا نحن الصحفيين يقترح على الحكومة أفكاراً عن الطريق الصحيح، وأذكر أنني في تلك الأيام كتبت مقالاً في مجلة (الملتقى) على صفحتين بعنوان (يا سودان للشرق در) كان كله حول حث الحكومة على سرعة الاتجاه ناحية الصين، لأنها مرت بتجربة شبيهة بتجربتنا، وعرضت تاريخ الثورة مع المجاعة، وكيف تخلصت منها بجهود شاقة.. لذا أرى أن الاقتداء بالتجربة الصينية مناسب جداً.. وأهم ما في التجربة الصينية أنها لم تتهرب من إعلان الحقيقة للناس حول ضرورة رفع الإنتاج، وقد كان الصينيون يجدون كل المتعة في جلسات تدخين الأفيون فأصبحوا لمة من المساطيل، لكنهم تحولوا إلى أكبر قوى منتجة خلال عشرين عاماً.
} بدأت التجربة الصينية بمصادرة أراضي الإقطاعيين، لأنها لم تكن تنتج المحاصيل الغذائية بينما الشعب الصيني يعاني من المجاعة، فكان أول قرارات الثورة تحويل كل المزارع لإنتاج الغذاء الشعبي وهو الأرز، وكونت في كل قرية لجنة لحث المزارعين على الإنتاج وتقديم الدعم لهم.. وكان أعضاء اللجنة الشعبية يقيمون في القرية، يأكلون في نفس الطعام الذي يأكله الناس، ويجتمعون كل مساء لمناقشة أية مشكلة تواجههم، وكانت كل اللجنة تحاسب على رقم الإنتاج، فإذا لوحظ أنه في زيادة أعطيت جوائز لأعضاء اللجنة، وأية قرية تتفوق في الإنتاج يكتب عنها وتعرض تجربتها. ويحكي الصينيون عن تلك الفترة الصعبة فيقولون: (أكلنا كل شيء يتحرك في الأرض أو البحر).
ورأى الصينيون الاستفادة من كثرة الأيدي العاملة، فأقاموا المصانع اليدوية في كل قرية، فكان الفلاحون بعد الانتهاء من العمليات الزراعية يذهبون لصنع أشياء يدوية ويصدرونها.
} لنقارن ذلك بما يحدث الآن في بلادنا.. نحن نصرخ طلباً للإغاثات عندما تحدث ضائقة، ونكتفي بذلك، وبالطبع تهب الدول الأوروبية لمساعدتنا لأن من مصلحتها بقاءنا في حالة التسول هذه.. لقد خرجت الصين من مجاعة حقيقية خلال عامين أو ثلاثة عندما حولت كل المزارع لإنتاج الغذاء وفق ضوابط صارمة منظمة.
الآن ألاحظ أن مشاريعنا تموت واحداً بعد الآخر، مرة بحجة التمرد، وأحياناً لغياب الدافع.. مشروع جبال النوبة الذي كان يأوي الملايين أهمل إلى أن أصبح غير منتج، بل توقف بحجة الجفاف، مع أن تلك المنطقة لا تعاني من الجفاف وأمطارها غزيرة.
كان هذا المشروع ينتج القطن قصير التيلة والذرة والدخن والفول السوداني، كان فيه أمهر الخبراء الزراعيين، وكان إنتاجه يوفر كل احتياجات السكان، والآن ما هو الوضع؟ تلاحظون أن أبناء مناطق جبال النوبة يملأون الشوارع، يعملون في مسح الأحذية وبيع السلع الصغيرة.. أما كان الأفضل إبقاءهم في المشروع وتحويلهم إلى جماعة منتجة؟!
} في أول أيام مايو رفع “نميري” شعار الانفتاح على الريف، وقال في عدة خطابات نارية إنه بدلاً من أن يأتي أهل الريف إلى الخرطوم فلتذهب الخرطوم إليهم، لكنه أهمل تحفيز الناس لإغرائهم بالإقامة مع الريف، ولم يهتم بتنظيم هذا العمل بتكوين لجان شعبية كما فعل الصينيون، ولم تخرج القوافل الحاملة لوسائل الإنتاج والتقاوي إلى الريف.. فقط اكتفى “نميري” برفع الشعار ولم يتبعه بإجراءات عملية على الأرض كما فعل الصينيون.
} التجربة السعودية أيضاً تستحق الدراسة.. لقد رعى الملك “فهد” هذه التجربة منذ أن كان أميراً، وجمع حوله الخبراء في الزراعة وهو يعرف أن المملكة ليست بلداً زراعياً ولديها مشكلة في مياه الري، لكنه ترك الأمور للخبراء وخصصت كل الاعتمادات اللازمة لاستيراد أية آلة أو جهاز.. وكنت آنذاك في المملكة أتابع هذه الجهود وأرقام الإنتاج من عام لآخر، وكيف أن الملك “فهد” رفض القمح الأمريكي الرخيص.. وأذكر أن لجنة من المزارعين الأمريكيين جاءت لإقناع “فهد” بعدم جدوى إنتاج القمح في المملكة، وأن الأفضل استيراده بأسعار أرخص، لكن الملك “فهد” قال لهم إن القمح سلعة إستراتيجية، وإن الدول المنتجة له تتحكم في العالم، ولهذا فهو يرى أن أي إنفاق في هذا الصدد لا يساوي شيئاً قياساً بعائده.. وكنت أحرص على متابعة أرقام الإنتاج عاماً بعد آخر، وخلال ثلاث سنوات اكتفت المملكة ذاتياً من قمحها الذي زرعته، وفي السنة الرابعة فاض الإنتاج عن حاجتها لدرجة أنها صدرت فائض إنتاجها من القمح إلى مصر والسودان البلدين الزراعيين لآلاف السنين.
} لقد رفعنا في أول أيام الثورة شعار (نأكل مما نزرع) وهو نفس الشعار الذي رفعته الصين أيام المجاعة.. وبالفعل بدأنا نحس أننا ننتج غداءنا ولم ننتبه إلى أن معنى زيادة إنتاج القمح أن يصبح الآخرون أيضاً من مستهلكي القمح، فأخذ مزارعو الجزيرة يقلدون أهل الشمالية في عمل (القراصة) لغذائهم، وركزنا على إنتاجه في المشاريع المروية، ولم نهتم بتطوير الوسائل، ولم نهتم بالعمق الشعبي، ولم نحفز المزارعين.. وفي مرحلة لاحقة اكتفينا بالقمح المستورد لأنه أرخص.
} كان المفترض أن يتم حصر كل المناطق التي تصلح لإنتاجه في نهر النيل والشمالية وجبل مرة، وتوجيهها لإنتاج القمح وحده وحصرها فيه مهما كانت رغبة المزارعين، تماماً كما فعلت الصين، ولا بد من تكوين لجان متابعة الإنتاج لمكافأة المنتج ومعاقبة غير المنتج، وأن يكون هناك خبراء لا يترفعون عن الإقامة في القرى يتابعون الإنتاج ولا يكتفون بكتابة التقارير