رياح التغيير تدفع شراع العلاقات السودانية الجنوبية
منذ أن آثر الجنوب أن يخط على صفحته مصيره بيده، ناظراً إلى الماضي بحذر وبعدم الرضا، والدبلوماسية بين البلدين شماله وجنوبه تدخل في فخ الشد والجذب، والعيون الدولية ترصد وتتابع بنظرات ثاقبة تخلص تارة وتنجرف وراء المصالح تارة أخرى. وعلى الرغم من الارتياح الذي صاحب زيارة رئيس دولة الجنوب مؤخراً “سلفاكير” إلا أن جوهر ما حدث خلف الأبواب المغلقة ما زال في حقائب المسؤولين.
ومن بين التكهنات والمآلات لمستقبل البلدين، جاءت قراءات المحللين للأحداث صادقة بالمركز العالمي للدراسات الأفريقية، خلال الندوة التي نظمها عن مآلات زيارة “سلفاكير” على العلاقات بين دولتي السودان.
{ رياح التغيير
يرى نائب مدير إدارة جنوب السودان بوزارة الخارجية السفير “إبراهيم الشيخ”، أن رياح التغييرات التي حدثت بالجنوب مؤخراً ألقت بظلالها الإيجابية على السودان الشمالي. وقال: (على الرغم من أن ذلك يعد شأناً داخلياً، ولكن العلاقة بين الدولتين بدأت تشهد نوعاً من التقدم، خاصة في مسألة الاتفاق على تدفق النفط وإقامة منطقة منزوعة السلاح، بالإضافة إلى مناقشة الدعم والإيواء وإنشاء مركزين لإحكام توطين ملفي خارجية البلدين).
وقال إن الزيارة تحدثت عن الملفات التي ظلت حبيسة الأدراج، مثل ملفات عدم ترسيم الحدود، بالإضافة إلى عدم تنفيذ بنود الترتيبات الأمنية الواردة في اتفاقية نيفاشا، وأضاف: (أعدّ التسويف في تنفيذ بنود نيفاشا وعدم وضع سقف زمني، من الأسباب التي أثرت على العلاقة بين الدولتين). ويرى أن زيارة “سلفاكير” الأخيرة حركت ملفات نائمة سواء من الناحية الاقتصادية أو السياسية، متوقعاً انسياباً سلساً للعلاقة، وتوصلهم إلى إقامة حدود آمنة وتبادل تجاري منساب.
فيما ذهب السفير “محمد الحسن الحاج” في توضيحه بأن الانعكاس الإيجابي للعلاقة بين الدولتين من شأنه أن ينعكس على العلاقات الإقليمية، وبين أن الرؤى الواحدة للدولتين تحسم مسألة الديون العالقة، موضحاً أن الحكومة التي عليها ديون ليس لها حرية التحرك، وبالتالي الديون الخارجية أصبحت من القضايا الملحة في الوقت الحاضر، وقال إن حركة رجال الأعمال وزيارتهم إلى الجنوب تعدّ بادرة حميدة، أخرجت الطابع السياسي إلى طابع اجتماعي آخر، وزاد: (لا بد أن تعمم فكرة تعميق التواصل بين الشعبين)، ووافقه الرأي د. “أبو القاسم أبو النور” الخبير الاقتصادي، بأن التبادل التجاري وفتح مجالات الاستثمار من شأنها أن تعيد أواصر الترابط بين الدولتين، وأضاف: (لابد من إيجاد معالجات لتقليل المخاطر بين الدولتين في مجال تجارة الحدود وما يوقعها في فخ التهريب، وتحديد أسعار الصرف بالنسبة للعملتين المحليتين).. وشخص مشكلة الاستثمار بالشمال، بعدم امتلاك المعلومات الكافية في مجالات الاستثمار، رغم تجديد القوانين وتسهيلها. وقال: (لا بد من تمليك خارطة الاستثمار لرجال الأعمال في الجنوب).
من منظور أمني يرى اللواء “أحمد عباس” أن نتائج زيارة “سلفاكير” أحدثت ما لم تفعله جولات من المفاوضات، خاصة في جانب تنشيط اللجان لبحث سبل دعم وإيواء المتمردين بين البلدين. وحذر من تنامي ظاهرة غسيل الأموال والتهريب، ونادى بضرورة إبعاد روح العداء بين الدولتين، فيما صبّ الملح على الجرح بحديثه عن قضية أبيي.. فيما يرى اللواء ركن “ضياء الدين العاقب” المحلل العسكري أن الاتفاق على عدم إيواء التمرد، ودعم الحركات المسلحة من الجانبين يعد بادرة طيبة، وفي ذات الإطار عدّ المساحة الكبيرة للحدود بين الشمال والجنوب والـ(10) معابر مسألة عسيرة بالنسبة للتحكم في الحدود، وكشف عن ثلاث استراتيجيات تقوم عليها علاقات الدول، أبرزها مؤتمر (بازل) بسويسرا القاضي بإنشاء إسرائيل لدولة مطامع كبرى محورها السودان ومصر، بجانب العلاقات الدولية التي تقوم على المصالح. وقضى بروتوكول (بازل) بتقسيم السودان إلى خمس دويلات عجل الجنوب بتنفيذ الجزء الأول منها. واقترح “العاقب” إنشاء مراكز مراقبة وتحكم على الحدود بين البلدين، وحذر من مشكلة أبيي وعدّها القنبلة الموقوتة، مشيراً إلى إبعاد كلمة المسيرية عن الاستفتاء قصداً إذا نفذ في أكتوبر، مبيناً أن جوبا حالياً تعمل على بناء قوتها العسكرية بالاستفادة من بترول الجنوب، إلا أنه عاد وتوقع بروز صراع جنوبي- جنوبي عقب إبعاد “سلفاكير” لبعض القيادات الجنوبية، “مشار” و”باقان”، وتوقع انعكاس هذا الصراع على الشمال، وربما الزج ببعض الحركات المسلحة والاعتداء على بعض المناطق الحدودية، وتصعيدها لتصل إلى التحكيم الدولي كما حدث لأبيي، وقال إن الهيكل التنظيمي للحركة الشعبية مبني على النظام القبلي، مما يجعل من أمر السيطرة على مكوناته أمراً عسيراً، وطالب بضرورة إنشاء مركز لإدارة الأزمات يقوم بوضع الفرضيات والبدائل وتطويع القدرات العسكرية، بالإضافة إلى إنشاء مركز إنذار مبكر على طول الحدود بين الشمال والجنوب ودول الجوار، خاصة وأن الجوار اليوغندي للجنوب أصبح يلقي بظلاله السالبة، وأصبح مهدداً أمنياً له إفرازاته على الأمن الجنوبي، مما يؤدي إلى توليد عدم الثقة بين الجنوب وتحالف الجبهة الثورية، وبالتالي يصب في مصلحة السودان الشمالي. ونبه إلى ضرورة المراقبة المستمرة للحدود للحد من تهريب الأسلحة وضبط الانفلاتات الأمنية.
{ للزمن ثمن
اتخذ نائب سفير دولة جنوب السودان “مكاونك” منحى الدفاع عن إرادة الجنوب في إيصال مفاهيم الوفاق مع الشمال، مؤكداً أن الجنوب يكرر محاولاته، وكانت أنجحها زيارة “سلفاكير” الأخيرة.. ومن خلف العبارات التي بدت ترتدي طابع الزهد، تحدث قائلاً إن الحكومات ملزمة بالذهاب في اتجاه إرادة الشعب وما يخدم شعب البلدين، لأن مصالح الشعبين فوق أية مصلحة حكومية، وأضاف إن الحكومات تتغير ويظل الشعب، واقترح جدولة زمنية لتنفيذ الاتفاقيات بين الدولتين، وقال إن احترام الزمن عامل لنجاح المصفوفة بين البلدين.
ونأى بنفسه عن الخوض في قضية أبيي عادّاً مسألة استفتاء أبيي قراراً يرجع للرئيس، وقال إن الاستفتاء كان ضمن اتفاقية نيفاشا، وإن الوعود قد طالت، وأهل أبيي يحتاجون إلى تنمية الخدمات وإلى الأمن، وأشار إلى أن مسألة الأمن بالحدود تُخص بها المنظمات الإقليمية بين الجنوب والشمال، واستبعد أن يحدث تمرد بالجنوب نتيجة التغيير الحكومي الأخير، وعدّ ذلك مجرد تبادل وتقسيم أدوار حسب الدستور.