«محمد سليمان المزارع».. الملحن الذي غرس أروع الألحان في حديقة الغناء السوداني
الساحة الفنية كانت وما تزال تزخر برموز عديدة لها اسهامها الواضح في مسيرة الفنون في السودان، من أولئك الذين نعنيهم العازف والملحن المعروف “محمد سليمان مصطفى” المعروف بـ(المزارع). توزعت ألحانه بين عدد من المطربين أبرزهم “بهاء الدين عبد الله أبو شله” الذي التقاه (المزارع) وقدم له أولى أعماله أغنية (يا أسمر) كلمات “محمد علي أبو قطاطي” وسجلها “أبو شله” للإذاعة في عام 1967م، ثم توالت رحلته اللحنية لتشمل الفنانين “عبد الدافع عثمان”، “أم بلينة السنوسي”، “منى الخير”، “زيدان إبراهيم”، “التجاني التوم”، “الصافي محمد أحمد”، “محمد أحمد عوض” وغيرهم.
نشأ “محمد سليمان مصطفى” بين (ود نوباوي) و(حي أبو روف) الذي انتقل إليه بعد وفاة والده في عام 1941م، فعاش وإخوته في كنف جده لأمه بـ(حي أبو روف) الشهير.. تعلق (المزارع) بفن الغناء من خلال متابعته للإذاعة السودانية وهو ابن اثني عشر عاماً، أدمن الاستماع للفنانين “عبد الحميد يوسف”، “إبراهيم الكاشف”، “حسن عطية”، “عثمان الشفيع” وغيرهم، من خلال الراديو الوحيد الموجود في أحد مقاهي (أبي روف).
في منتصف الخمسينيات تقدم (المزارع) للغناء في برنامج (ركن الهواة) الذي كان يقدمه الإذاعي “علي شمو”، فغنى أغنية (حلفت بيكم) للفنان “صلاح محمد عيسى”، ثم أتبعها بتلحين ثلاث أغنيات أخرى قدمها للإذاعة، إلا أن مدير الإذاعة وقت ذاك “متولي عيد” رفضها لضعف في اللحن، وأمر (المزارع) بالبحث عن ملحن آخر ليعاونه في وضع الألحان.
أول ظهور لـ”لمزارع” كان برفقة الفنانين “حسن عطية” و”سيد خليفة” من خلال حفل جامع بـ(نادي الخريجين) شرفه بالحضور الزعيم “إسماعيل الأزهري”، وكان (المزارع) وقتها عازفاً لـ(الطبلة) التي اشتراها له الفنان “سيد خليفة” بمبلغ خمسين قرشاً من بائع الآلات “قريب الله” بـ(حي البوستة) بأم درمان، ثم تحول لاحقاً لعزف آلة (البنقز) لينضم لعازفها الأول المرحوم “خميس جوهر”، الذي جاء من (القاهرة) في معية الفنان “عثمان الشفيع” وأقام معه.
لقب (المزارع) أطلقه عليه لأول مرة الفنان “سيد خليفة”، ذهب إليه يسأل عنه في منزله، فقيل له إنه داخل إحدى المزارع بـ(أبي روف)، وقف “أبو السيد” أمام المزرعة منادياً يا “محمد” يا (مزارع)”، ومن وقتها التصق (اللقب) باسمه.. ارتبط “محمد سليمان” (المزارع) بعلاقة وثيقة مع الفنان “عثمان الشفيع”، وكان ملازماً له ومرافقاً إياه في كثير من حفلاته الغنائية داخل السودان وخارجه، ويرى (المزارع) أن الراحل “عثمان الشفيع” كان يتمتع بصفات ميزته عن الآخرين مثل النخوة والوفاء والكرم الفياض واحترام زملائه ومعاملتهم برفق وإحسان، وقد عرف عن فنان الذكريات “الشفيع” احتفاءه بأخلائه وشركاء رحلته الغنائية وذكرهم في كل محفل ومقام.
علاقة (المزارع) بالألحان لم تنتهِ بعد، رغم مفارقته للوظيفة الرسمية بالإذاعة منذ الستينيات في عهد مديرها الأسبق (الصاغ) “التاج حمد”، يمتلك الآن في حوزته مجموعة من الألحان الجديدة، تأخذه الحيرة من كل جانب إلى مَن يُقدم إنتاجه الجديد، فرأيه في مطربي اليوم واضح وصريح، فأغلبهم تتباعد خطواتهم التي تجمعهم بالرواد من المبدعين، رغم أن بعضهم يمتاز بالموهبة وحسن الأداء.
“محمد سليمان” (المزارع) بتاريخه الطويل مازالت تحاصره تداعيات الماضي الجميل، يوم كان يقف شامخاً مشاركاً الرواد نثر الفرح الذي يأتي منساباً من أرباب الطرب، (الشفيع، أبو داؤود، عثمان حسين، حسن عطية)، والعميد “أحمد المصطفى” و”الكابلي” و”ابن البادية” و”وردي” و”صلاح مصطفى” و”محمد ميرغني” وغيرهم، وما زال أسيراً لا يريد فكاكاً من ماضيه المشرق الذي جمعه بفطاحلة العازفين (حسن خواض، بدر التهامي، رابح حسن، حسين جاد السيد، بشير عمر، علاء الدين حمزة، برعي محمد دفع الله، علي مكي، فرح إبراهيم، محمد إدريس أبو شنب، محمد الحسن سمير، أحمد داؤود، علي أبو ديه، أحمد المبارك، علي ميرغني، عبد الفتاح الله جابو، مأمون حسن بشير، محمد جبريل، عبيد محمد أحمد، إبراهيم عبد الوهاب، حمودة، حرقل، أكرت، خميس جوهر، خميس مقدم) وغيرهم.
يعيش الآن الملحن “محمد سليمان” (المزارع) حياة هادئة، مقيماً في أحد منازل الإسكان بالحارة (95) بمحلية كرري، وسط أسرة تتكون من أبنائه “كمال” و”صلاح” و”أمير” وبناته “منى” و”منال” اللائي تزوجن ويقمن مع أزواجهن، أنجبهم جميعاً من زوجته الراحلة “زهراء محمد حماد” التي سبقته إلى عالم الخلود، بعد أكثر من خمسة عشر عاماً، دخل (المزارع) استديو الأزهري بالإذاعة السودانية من جديد ضيفاً على برنامج (ملامح سودانية)، سيعانق حديثه الأسماع عما قريب، رجل بهذا الحجم والعطاء لماذا لا تتبارى كثير من الجهات لتكريمه والاحتفاء به تقديراً لعطائه المشهود في سوح المبدعين.