خلف الأبواب
} ليس كل ما تشاهده العين من فعل سياسي وتسمعه الأذن يمثل الحقيقة الكاملة، فالعلاقات السودانية الأمريكية المتدهورة منذ أكثر من ثلاثين عاماً، التي تشهد حالة مد وجذر تصل أحيانا حد المواجهة العلنية ثم تخبو حيناً وتبدأ حوارات مسكوت عنها.. هناك حقيقة تحت الضوء الخافت ينكرها الطرفان، أي “واشنطون” و”الخرطوم”، عن تعاون أمريكي سوداني، يبدأ من قضايا الإرهاب وحقوق الإنسان وبعض الملفات السياسية. فبعد الرابع عشر من سبتمبر تعاونت “الخرطوم” و”واشنطون” في قضية الإرهاب أيما تعاون، ثم بدأت علاقة علنية خلال حقبة التفاوض في “نيفاشا”، وخلال فترة التفاوض حول القضايا العالقة مع جنوب السودان. وتمثل المبادرة الأمريكية للسناتور “جون دانفورث” حول أبيي ثمرة لهذا التعاون، وقد لعب العامل الأمريكي دوراً حاسماً ومهماً جداً خلال المساومة بين الشماليين والجنوبيين المعروفة بنيفاشا.
} على صدر الصفحة الثانية من (المجهر) في عدد اليوم تقرير عن المفاوضات التي جرت في “جنيف” بين “الخرطوم” و”واشنطون”، حيث شهد مقر الأمم المتحدة هناك حواراً وتفاوضاً مطولاً أطرافه السفيرة السودانية “رحمة عبيد”، ومندوب الولايات المتحدة الأمريكية و(مساعد وزير الخارجية الامريكية للشئون الأفريقية) وآخرين. وبين “واشنطون” و”الخرطوم” كثيراً ما دفعت أمريكا بنسائها بدءاً من “مليسا ويلز” و”أولبرايت” و”كوندا ليزا رايس” للدخول في تفاوض مع رجالات الحكومة السودانية، ولكن هذه المرة دفعت الخرطوم بإحدى نسائها السفيرة “رحمة” لمواجهة رجالات الإدارة الأمريكية ممثلة في مساعد وزير الخارجية، وهو يحمل عصا وجزرة، كشأن المسؤولين الأمريكيين دوماً، ولكن مما تسرب من خلف الأبواب المغلقة ثمة اتفاق بين الطرفين على كثير مما كان يعكر صفو العلاقة، ومما يعد مسكوتاً عنه.
} الأمريكان من جانبهم آثروا الصمت وعدم الإفصاح عن ما تم الاتفاق عليه، وكذلك السودانيون تبدو مصالحهم أن يبقى ما اتفق عليه طي الكتمان، ولو إلى حين. فالولايات المتحدة تملك مفاتيح كثيرة في لعبة الأمم، وفي دهاليز لجان حقوق الإنسان، وهي التي حتى اللحظة لم تبدِ معارضة علنية أو تربصاً بالتقرير الذي اعتبر إيجابياً في مصلحة السودان منذ ثلاثين عاماً، حيث لم يكتب تقرير بحيادية مثله، ولكن الباحث والأكاديمي النيجيري، الأستاذ بجامعة لندن “مسعود بدرين”، قدم توصيفاً لأوضاع حقوق الإنسان في السودان تجاوزت التقاليد القديمة، وما درج عليه المبعوثون من إدانة للسودان وصرف النظر عن الانتهاكات التي ترتكب من جهة المتمردين.
} في مقبل الأيام، أي الأسبوع القادم، ستفصح “جنيف” عن ما سُكت عنه بالأمس، إذا لم تهاجم الولايات المتحدة الأمريكية التقرير في مرحلة المناقشة أو تنقلب عليه بضغط اللوبيات المعادية للسودان.
} إن مياهاً قد جرت فعلاً في نهر العلاقات السودانية الأمريكية، وحتى أمس لم تبدِ أمريكا اعتراضاً على تجديد مهمة المبعوث الأممي لحقوق الإنسان في السودان، ولكن تبدو مناخات السياسة وتقلباتها كثيرة المفاجآت، فهل تفاجئ أمريكا بعد هذا الموقف الذي يبدو إيجابياً بمواقف متشددة ومغايرة لحساباتها هي، أم أن الثغرة التي تسلل من خلالها اتفاق “جنيف” قد تفضي لما هو أوسع وأعمق في مسار علاقات “واشنطون” بالخرطوم؟!.