أخبار

رقيب داخلي..!!

} يتجاوز مفهوم الرقابة عند الكاتب وخاصة (الصحفي) إلى مساحة متضخمة في كثير من الأحايين، حينما يمارس على نفسه (رقابة ذاتية) من نوع صارم قد تجعله يصل إلى مرحلة من (الحيرة) و(التيه) لدرجة يرتجف معها القلم في يده وهو يكتب، بل تدفعه إلى القذف بما يكتب في سلة المهملات تمشياً مع رغبات (الرقيب الداخلي)، الذي غالباً ما يكون ضحية لمجموعة من الترسبات الموروثة التي تتفاقم بمرور الزمن إلى أن تصبح مادة مثيرة للرقيب الداخلي، وتشكل هاجساً مستمراً وملحاً كلما اقترب الكاتب من فعل الكتابة!
} (الرقيب الداخلي) يمارس سطوته على الكاتب، فيمنعه من القبض على الحقائق، فيضطر إلى الدوران حولها من على البعد مكتفياً برؤية (الفيل) والطعن في ظله. و(الرقيب الداخلي) يمارس عنفوانه فيصيب الكاتب بهلع (وهمي) يجعله يتخيل أن ما كتبه سيكون آخر عهد له بالكتابة.. و(الرقيب الداخلي) يتقن اللعب بـ(المقص) فتخرج أوراق الكتابة (مشوهة) و(مبتورة) لا تكاد تسفر عن وجه مكتمل أو رؤية صحيحة.. و(الرقيب الداخلي) يقهقه في وجه الكاتب كلما انتابه الظن بأن كتابته ستكون ذات جدوى وأنها ستغير وجه العالم.. و(الرقيب الداخلي) يطفئ كل شمعة يمكن أن ترسل ضوءها إلى ورق الكتابة، وهي تحاول أن تستلقي تحت الشمس، وتفضح ما بين سطورها وتكشف ما خلف الكلمات والحروف!
} وكبار الكتاب العرب ما عادوا يترددون في الاعتراف بأن (الرقيب الداخلي) قطع عليهم الطريق في الوصول إلى ضمائر الناس، وفي كتابة ما هو مهم وجريء وصريح، وفي تأسيس رؤى أكثر مصداقية وشفافية.. وكبار الكتاب العرب أيضاً لا يخجلون من الاعتراف بأن ما كتبوه حتى الآن لا يعد كونه نزراً يسيراً من كتابات أخرى (مسكوت عنها) لم يجرؤوا على تدوينها في الورق وإخراجها للنور، فظلت حبيسة في العقل الباطني أو خرجت على استحياء، ثم كان مصيرها سلة المهملات أو الحرق العلني!
} وحساسية من يكتبون حينما تمتزج برغبات (الرقيب الداخلي) تجعل الكاتب يتخوف من كل شيء حتى الممكن والمباح والمشروع، فينظر إلى ما يكتبه بعين أخرى ليست عينه، ويكتب بذاكرة أخرى غير ذاكرته، ويسطر حروفه بقلم آخر غير قلمه.. وفي كل الأحوال تظل مقررات (الرقيب الداخلي) مفروضة عليه، فيتردد كثيراً وهو يبني كتابته بضمير (الأنا) خوفاً من وصفه بالنرجسية، ويتردد أكثر وهو يبني كتابته على لسان (الآخر) خشية من أن يتهم بالتسويف في حق الآخرين، ويتردد أكثر وأكثر أيضاً وهو يصيغ حكاية من خياله تفادياً لأن تشير إليه الأصابع باعتباره بطل هذه الحكاية وأن أحداثها تتعلق به هو وليس بأحد آخر سواه!!
} حالة من الملاحقة المثيرة بين الكاتب و(رقيبه الداخلي) أشبه ما تكون بأفلام المطاردات، التي تنتهي غالباً بانتصار (الرقيب الداخلي) الذي ليس بالضرورة أن يكون نموذجاً للخير دائماً، إذ كثيراً ما يكون هذا الرقيب مجرد تركيبة غريبة من العقد والأوهام والحساسية الزائدة، وربما التضخيم لأشياء صغيرة لا ترى بالعين المجردة، ورغم ذلك يظل (الرقيب الداخلي) مأزق كل كاتب، وفخاً كبيراً لابد أن يقع فيه كل كاتب، ومن يخرج منه فلن يسلم تماماً من بعض (الخدوش) و(الجروح)، لكن المدهش حقاً أن كثيراً من الكتاب يعيشون حالة إدمان مستفحل للرقابة الداخلية، ويخضعون تماماً لما تمليه عليهم من مقررات ووصاية ومصادرة للأوكسجين وقبض على رئة الكتابة!!
ثم ماذا بعد؟!
} (الرقيب الخارجي) هو الأب الشرعي لـ(الرقيب الداخلي).. الأول نمارس عليه السخط بحجة التعتيم والتكتيم.. والثاني نمارس عليه الرضا بذريعة ليس كل ما يعرف يقال.. الرقيبان هما من يمنحان للكتابة الأهمية والخطورة والشعور بأن القلم سلاحٌ مزدوج إلى حد الاطمئنان أو الكارثة.. في (الزمن الديمقراطي) يمكن تحجيم (الرقيب الخارجي).. لكن يبقى (الرقيب الداخلي) في كل الأزمنة.. والأمكنة!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية