أخبار

ماذا تُريد أمريكا؟!

يبدو – حتى الآن على الأقل – أن وزارة الخارجية الموقرة لا تمتلك (خارطة طريق) واضحة للتعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية.. قد تكون هناك (نوايا) ورغبات، وربما خطوط عريضة للكيفية التي ينبغي أن تنبني عليها هذه العلاقة، ولكنها في مجملها تقوم على مبدأ (ردة الفعل) وليس (المبادرة).. وتعتمد على خطوة من هناك للتقدم بخطوة من هنا.. علاوة على تأثر هذا الملف في كثير من الأحايين بالأشخاص، أي الوزراء الذين تعاقبوا على الإمساك بحقيبة الخارجية ومدى فتورهم أو حماسهم لإيجاز مهمة التطبيع المعقدة والشائكة، في حين أن (السياسة الخارجية) ينبغي أن تعتمد على رؤية حكومات وشعوب وإرث من التراكمات المخطط لها والمتفق عليها.
 (الإنقاذ) في بادئ عهدها وصلت علاقتها بواشنطن إلى حد القطيعة.. ثم تأرجحت مابين فتور زائد ومراوحات متراجعة.. وبعد (المفاصلة الشهيرة) داخل الحزب الحاكم، بدأت تتحرك دبلوماسية الخرطوم لإحداث نوع من التقارب مع واشنطن، تَرافق معه تحولات سياسية مهمة في مقدمتها انتهاء حقبة (القبضة الحديدية) والانفتاح النسبي على القوى السياسية، والدخول في حوارات وتفاهمات مع الحركات التي حملت السلاح في الجنوب ودارفور والشرق، انتهت باتفاقات سلام وجدت ارتياحاً أمريكياً اعتقدت معه الخرطوم أن تطبيعاً كاملاً سيحدث، خاصةً بعد (التعاون الأمني) الكثيف معها في ملفات مكافحة الإرهاب.. وبدأ يتواتر على الخرطوم مبعوثون خاصون من واشنطن، قُوبلوا بنوع من الحذر حول طبيعة المهام التي سيقومون بها، دون أن يُسقِط ذلك (ورقة التطبيع) التي كانت تلوح في الطاولة وتسعى الخرطوم للمراهنة عليها.
قد كانت المحصلة – حتى الآن – أن قدمت الخرطوم معظم ما ظلت تُطالب به أمريكا، مقابل عدم تقديم ولو النذر اليسير مما وعدت به، أو ظلت تطرق عليه الخرطوم مثل رفع اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وإلغاء العقوبات الاقتصادية المفروضة على الخرطوم، وغيرها من مطلوبات مازالت مُعلقةٌ في انتظار حسم مسلسل العصا والجزرة الذي تُخرجه الولايات المتحدة بشكل لا يخلو من غموض وتعقيد مقصودين، وليس بشكل يفتقد إلى الرؤية كما يظن بعض المراقبين. فأمريكا (سياساتها الخارجية) من الأمور التي يتم الاتفاق المؤسسي عليها، وتُوضَع لأجلها الاستراتيجيات بعيدة المدى والأثر.
مؤخراً صرَّح الوزير “علي كرتي” بأن السودان لن يتعاون مع المبعوث الأمريكي الجديد حالَ انصرافه إلى قضايا خلاف حل الملفات المتبقية بين الخرطوم وجوبا، وعدم تركيزه على برنامج محدد.. وأوجز ضمن حديثه أن الحكومة تمتلك خارطة للتعامل مع المبعوث الأمريكي.
غَضَب “كرتي” كان واضحاً على أمريكا ومبعوثها الخاص، ومن يقرأ بين سطور ما قال يستشعر عدم رضا الخارجية السودانية على سير العلاقة مع أمريكا وضيق صدرها، لما تراه عدم التزام جدي بما تُريده منها.. وقد كانت نظرة التلويح بعدم التعاون تقترب من التهديد، وهو موقف تَجاوَز طريقة التعاون مع المبعوثين الآخرين الذين كانوا لا يخرجون إما عن لافتة الترحيب أو التحفظ أو التفاؤل الحَذِر..
فلماذا وصلت الأمور هذه المرة إلى (الوعيد والتهديد)؟! ألا يعكس ذلك أن الخارجية عجزت عن حل اللغز الأمريكي وفك شفراته المعقدة.. أم أن (خارطة الطريق) الجديدة التي أعلن عنها “كرتي” تقوم على هذا الأساس الذي قد يقود إلى قطع (شعرة معاوية)، في حال أن استمرت واشنطن بإغلاق أبوابها في وجه الخرطوم.
شيء جيد أن تكون هناك (خارطة طريق) بحق وحقيقة، سواء كانت ستأتي بتطبيع أم ستُوقِع القطيعة.. لكن أخشى ما أخشى في ظل غياب إستراتيجية واضحة للتعامل مع أمريكا طوال الحقبة المنصرمة، أن لا تكون هناك (خارطة طريق) متفق عليها داخل الحكومة التي في الوقت الذي كان يُلَّوِح فيه “كرتي” بتصريحاته الأخيرة، كانت هناك قيادات سياسية منها تُقدم (وصفات متقاطعة)، وتتبرع بتوزيع أكثر من خارطة طريق واحدة للكيفية التي يُفترض أن تتعامل بها الخرطوم مع واشنطن!!
فماذا بعد كل ذلك؟! أليس من الضروري أن يكون عنوان (خارطة الطريق) إن وجدت أو ستوجد: ماذا تُريد منا أمريكا؟! وماذا نُريد من أمريكا؟! وهل بالإمكان تقديم تنازلات فعلية جادة للقبول بما تُريد لنحصل على ما نُريد؟! أم لا داعي لإهدار الوقت والجهد والمال، والخرطوم جاهزة لغلق الباب الأمريكي والبحث عن أبواب أخرى. وما يعنيه ذلك من دفع كامل ومرهق لـ (فاتورة باهظة)، لكنها قد تكتشف بجلاء موقفاً واضحاً ورؤية ثاقبة تتجاوز ما هو عليه الموقف الآن من ضبابية وارتباك وارتجال!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية