المشهد السياسي

فض الاعتصامات .. مكسب أم خسارة؟!

مرّ الآن أكثر من شهرين على انقلاب الثلاثين من يونيو في مصر تقريباً، وأكثر من أسبوعين على فض اعتصامي (رابعة العدوية) و(النهضة)، ولكن نظام الفريق “السيسي” وبعض كبار السن والخبرة من رموزه، لم يجلسوا على جنب ليراجعوا ما اتخذوا من قرارات اعتبرت مكلفة للغاية، بل خسارة لا مكسباً في تاريخ مصر السياسي المعاصر.
لقد انفضت الاعتصامات في (رابعة العدوية) و(النهضة) وراح الكثير من الأرواح والدماء جراء ذلك، ثم بدأ مسلسل الاعتقالات في قادة حزب (العدالة والحرية)، ولا نقول الإخوان المسلمين الاسم الذائع إعلامياً هذه الأيام، ذلك أنه حسب الدستور يومئذ كانت الجماعة، وهي تتطلع إلى قيادة الدولة في دولة مدنية ومتعددة الأديان والثقافات، قد اختارت لنفسها ذلك المسمى السياسي أو (حزب العدالة).
وبعد عملية فض الاعتصام وقبلها كان النظام الحاكم قد احتاط لنفسه من مناشط أخرى مماثلة بإعلان حالة الطوارئ في البلاد ثم حظر التجوال. وكما كان لما جرى في (رابعة) و(النهضة) وغيرهما من فظائع وجرائم لا إنسانية لم تكن مسبوقة في مصر من حيث العدد والفظاعة.. كان للإجراءين – اللذين عادا بالذاكرة إلى عهد الأنظمة العسكرية الدكتاتورية وكان آخرها نظام الرئيس المطاح به في ثورة 25 يناير “مبارك” – أثرهما الكبير على الاقتصاد والاستقرار في البلاد.. فالمواطن المصري بطبيعته لم يعرف حظر التجوال والبقاء داخل الدور لفترات طويلة، ولم يعرف أيضاً غياب السائحين وانقطاعهم عن البلاد جراء عدم الاستقرار والطمأنينة، مما فرضته قرارات مؤسسات الحكم لأول مرة بعد غياب.
وهذه كلها بتقديرنا وتقدير غيرنا لم تخلُ من عدم القيام بعملية (جمع وطرح) تفضي في آخر النهار لمعرفة ما يمكن أن يحدث من ناحية سياسية وإنسانية واقتصادية وأمنية، فكل من هذه آثاره السالبة.
فمن الناحية السياسية والأمنية – مثلاً – كان لا بد للجهات الأمنية أن تعلم تاريخ هذه الجماعة في مواجهة مثل هذه الملمات، وهي قد بدأت باغتيال الشهيد “حسن البنا” الأب المؤسس في 1948م والشهيد “سيد قطب” و”عبد القادر عودة” وغيرهم في خمسينيات وستينيات القرن الماضي. ومع ذلك ورغم تعدد الأنظمة منذ عهد “الملك فاروق” والرئيس “عبد الناصر” و”السادات” و”مبارك”، فإن الجماعة لم تلن لها قناة ولم ترضخ لما نزل بها وبقياداتها من إعدام وسجن وحبس وحظر نشاط.
وكان على الجهات الأمنية من شرطية وعسكرية وسياسية أن تعلم إلى جانب ذلك أن (الحركة الإسلامية المصرية) في الألفية الثالثة غيرها في النصف الأول من القرن الماضي، حيث أنها طورت أساليبها في العمل وجددت معيناتها وكوادرها لتصبح الكيان الأكثر تأثيراً في المجتمع وكسباً لقواعده وانتشاراً في ربوعه. وعليه لم يكن كسبها للانتخابات الديمقراطية الأخيرة بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير وضد كل الكيانات الأخرى الداعمة للانقلاب الحالي سوى مبرر واحد، هو أنها لها جماهيرها ولها إمكانياتها المادية والفنية. وغياب أحد قياداتها البارزة (موتاً) أو (حبساً) واعتقالاً لن يغير في عملها شيئاً.
ولعل هذا ما حدث عندما انتقل نشاط الاعتصامات في (رابعة العدوية) و(النهضة) إلى مسيرات وتظاهرات في كل محافظات وشوارع القاهرة، بحيث أرهق ذلك قوات الأمن وجعلها تبذل كل جهودها لتمد الإعلام بمعلومات عن اعتقال قائد هنا أو عنصر سري هناك، وفي ذلك ما يشير إلى أن النظام الحاكم يضاعف ويزيد من أعداد المعتقلين ومصادرة حرياتهم وحقوقهم في التظاهر السلمي بدعوى الإرهاب وحيازة السلاح وقتل رجال الشرطة والأمن.
إنها ادعاءات لا تجد ما يدعمها أو يسندها، ومن ذلك أن قوات الأمن تحدثت عن سلاح كان لدى المعتصمين في ميدان (رابعة العدوية).. ولكنها لم تعرض ذلك على أجهزة الإعلام كما هو مطلوب.. وكانت هي القاتل والمستخدم للأجهزة الثقيلة التي راح ضحيتها من قدروا بالآلاف، مما أثار غضب منظمات حقوق الإنسان والدول ذات الوزن، وجعل الدولة العبرية، وهي مناصر قوي للنظام في مصر، تدعو دول الاتحاد الأوروبي وغيرها للكف عن إدانة ما حدث في ميدان (رابعة العدوية).
ولكن (على نفسها جنت براقش) كما يقولون.. ولذلك فإن من يتابع حمى التظاهرات المساندة لجماعة الإخوان المسلمين يجد أن الجماعة بما امتلكت من قدرات وخبرات نقلت نشاطها إلى عواصم الدول الخارجية أيضاً.. كما الحال في مصر.. وذلك للتأثير على السلطة الحاكمة دبلوماسياً وللخروج من الخناق الإعلامي والحظر الذي تقوم به السلطة في أجهزتها.
إن هناك تظاهرات الآن في (روما) و(لندن) و(واشنطن) و(باريس) وجل دول الشمال الأوروبي، يشارك فيها مصريون وغيرهم من ذوي الضمائر الحية والمناهضة للدكتاتورية والجرائم ضد الإنسانية في تلك البلاد، كما حدث في فض اعتصام (رابعة العدوية) و(النهضة).
وهذه النقطة الأخيرة – أي الخروج إلى الخارج – رغم أنها جديدة في أسلوب عمل الحركة ومناهضتها لما يجري ضدها في مصر، تشير إلى أن المساندة والمؤازرة للجماعة ليست في الدول العربية الإسلامية فحسب، وإنما في دول أخرى.
إن هذا كله، كما سبق أن قلت، ينم عن غفلة وعدم دراية بضرورة وحساب الربح والخسارة في القرار قبل اتخاذه.. فالخسارة الآن – في ما يبدو – كبيرة، ذلك أن البلاد قد دخلت في حالة عدم استقرار وركود اقتصادي، رغم ما حدث من هبات ومساعدات لا يدري المواطن المصري الآن أين ذهبت..!
وليس ما حدث في (العدوية) وحده بالقرار الذي جانب الصواب وضاعف من الخسائر الأدبية والسياسية والأمنية، وإنما ما يجري الآن في (سيناء) وصعيد مصر، وهو ما يقرب الشقة بين جمهورية مصر العربية و(إسرائيل) ويباعد بينها وبين (فلسطين)، وفي ذلك خسارة سياسية وربما أمنية كبيرة، فقد ظلت تلك المنطقة نقطة ساخنة على الدوام.. ورغم اتفاق (كامب ديفيد) وما يتصل به من دعم أمريكي لمصر والجيش المصري، فإن غياب الحكمة له ثمنه..!
هذا فضلاً عن أن الولايات المتحدة الأمريكية، التي يسعدها أن تكون العلاقة بين مصر وإسرائيل (عسل على لبن)، ما يزعجها الآن ويعكر مزاجها هو وضع اليد على السلطة على حساب الديمقراطية، وفضلاً عن ذلك القتل والممارسات المنافية للحرية.. فالولايات المتحدة الأمريكية – دستوراً وسياسة وعلاقات خارجية – ليست مع الانقلاب مع الديمقراطية كما حدث على يد الفريق “السيسي” الذي كان جزءاً من النظام الديمقراطي السابق.. نظام الرئيس المعزول الدكتور “مرسي” في 30 يونيو الماضي.
ونحن نقترب من نهاية هذا (المشهد السياسي)، نختم القول، وفي ضوء ما أفدنا وذكرنا، بأن فض اعتصام (رابعة العدوية) بتلك الطريقة كان (خسارة لا مكسباً) للنظام الحاكم وخريطة طريقه التي لم تفض إلى (درب السلامة)، رغم ما قيل من أن الجيش والشرطة وجدا تفويضاً شعبياً أعطاهما حق فض الاعتصام في الميدانين على الطريقة التي يريانها.. فكان ما كان..!
إن جماعة الإخوان ستمضي في طريقها وسياستها المعلنة التي لا بديل لها، وهناك استهداف من السلطة لا حدود له.. والسلطة الحاكمة نفسها لا يبدو أنها تبحث عن حل غير الملاحقة والاعتقالات والمحاكم والسجون.. الزعامات الإسلامية كلها الآن في طور تحقيقات أو إحالة إلى محاكم.
وهذا مناخ – في ما نرى ويرى غيرنا في ما يبدو – لا يعين على تجاوز الأزمة، وليس سدة الحكم “برادعي” يشعر بالخطر على الشعب والأمة وبتأنيب الضمير، فينأى بنفسه عن التهور في اتخاذ القرارت.. كما فعل ومركز القرارات يتخذ قراره بفض (رابعة العدوية) على نحو ما حدث.

والله المستعان

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية