اعترافات "هالة"!!
دائماً ما أقول إننا ما زلنا نفتقد إلى ثقافة نقد الذات وأدب الاعتراف.. وكثيراً ما حاولت انتزاع الصراحة من ضيوفي الذين أحاورهم عبر ما أقدمه من برامج تلفزيونية، دون أن أزعم أنني نجحت بالشكل الذي كنت أطمح إليه، فالساسة غالباً يراوغون بامتياز ويملكون مهارات عالية للإفلات من (فخ الاعتراف) الذي يمكن أن يُنصب لهم.. ورغم ذلك، فما يدهشني هو أن بعض سياسيي بلادي يتطوعون أحياناً لتقديم بلاغات جهورة وإدانات داوية في حق المظلات السياسية التي ينتمون إليها، وهناك شواهد لما ذهبنا إليه.. مثلاً د. “قطبي المهدي” ظل يطلق تصريحات شهيرة انتقد من خلالها الحزب الذي ينتمي إليه، ود. “غازي صلاح الدين” ذهب أبعد منه وتبنى رؤية نقدية أكثر حِدة، وكذلك فعلت الأستاذة “سناء حمد”، ولكن بطريقة أكثر هدوءاً.. فيما جاءت ملاحظات د. “أمين حسن عمر” أقرب إلى المراجعات.. غير أنهم جميعاً ظلوا في نهاية الأمر متشبثين بالحزب الذي ينتمون إليه، وإن راجت أقاويل عن احتمالية خروج د. “غازي” لم تُصَدَّق حتى الآن على الأقل.
في المعارضة، السمة الغالبة هي أن تُكال الاتهامات للموالاة، وإن خرجت عن ذلك فهي في معظم الأحايين من حزب في المعارضة ضد حزب آخر في ذات المعارضة، ونموذج ذلك ما ظل يطلقه من تصريحات ساخنة كل من الإمام “الصادق المهدي” والشيخ “الترابي” وقيادات أخرى لم تكن تحمل قدراً من اعترافات تتصل بالأحزاب التي ينتمون إليها، وإنما كانت تحمّل مظلة المعارضة والأحزاب الأخرى التي تنتمي إليها مسؤولية الإخفاق أو الفشل في تحقيق الأهداف التي التأموا من أجلها!!
الأستاذة “هالة عبد الحليم” رئيسة حركة (حق) خرجت عن المألوف هذه المرة، وقدمت اعترافات من العيار الثقيل، ووصفت في كلمتها التي ألقتها ضمن المؤتمر السادس لحزب البعث الذي انعقد مؤخراً المعارضة بالعاجزة والفاشلة والغافلة.
هكذا قالت “هالة” بمنتهى الصراحة ودونما تحفظ.. صحيح أن الأستاذ “إبراهيم الشيخ” رئيس حزب المؤتمر السوداني قدم بدوره بعض الانتقادات لقوى تحالف الإجماع الوطني، لكن “هالة” كان صوتها أعلى، وانتقاداتها أشد، واتهاماتها أخطر، وأجملت في تصريحاتها ما يمكن تسميته بعدم جدوى وفعالية المعارضة في شكلها الراهن.. وهي نتيجة لن تُسعد من هم في التحالف بقدر ما قد ترضي من هم في الموالاة وظلوا يصفون المعارضة بالضعف والهشاشة وعدم القدرة على إسقاطهم.
من خلال برنامج (الصالة) الذي أقدمه في فضائية الخرطوم، قمت بإجراء اتصال هاتفي معها وسألتها عن ما إذا كان ما أوردته الصحف دقيقاً أم لا، فأكدت لي أنه صحيح تماماً وأنها ما زالت عند رأيها لإيمانها بأن هناك إشكالات حقيقية تواجه قوى الإجماع الوطني، ولابد من تقديم اعترافات شفافة للخروج منها، وهذا يبدأ بنقد الذات أولاً والكشف عن الأخطاء والسلبيات.. وأضافت “هالة”: إن هذه المراجعات ليست جديدة، لكن ربما الجديد هذه المرة أنها خرجت للهواء الطلق وتجاوزت حدود الغرف المغلقة، وهي خطوة كان لابد منها لمصارحة القواعد الحزبية بالحقيقة، ومن ثم العمل بشكل جاد للقيام بالإصلاح المطلوب.
قلت لـ”هالة”: كأنما كفرتِ بالمعارضة.. هل ستخرجين عنها؟!
قالت: لا طبعاً.. سأظل ضمن منظومة المعارضة وسأعمل مع غيري من أجل الإصلاح حتى نتمكن من تحقيق الأهداف التي توحدنا من أجلها.
انتهت المكالمة الهاتفية التي بُثت على الهواء مباشرةً.. وقلت معقباً على إفاداتها: إنها خطوة تستحق التقدير، وما قامت به يمثل شجاعة نادرة ينبغي أن يتحلى بها من هم في الموالاة والمعارضة معاً، لأن نقد الذات والاعتراف بالأخطاء هو السبيل الوحيد للخروج من أزماتنا السياسية.
أجل، على الأحزاب السياسية كلها أن تحترم عقول الشعوب، وأن لا تُصور ذواتها بشكل استعلائي متضخم لا تشوبه شائبة أو يعتريه نقص، كي تكتسب المصداقية المطلوبة وتجد القبول اللازم.
(اعترافات هالة) قد تثير عليها موجة غضب مجموعات (التكتيم والتعتيم)، ولكن في المقابل ستفتح الباب على مصراعيه لِتحَوُّل حقيقي وجاد لمسارات الأحزاب وطرائق التفكير، بما يجعلها أكثر مواكبة وقدرة على الفعل والمبادرة.. “هالة” فتحت الباب.. ثم ماذا بعد؟!