شهادتي لله

بل صحافتنا متطورة سيدي النائب الأول

} تجدني مضطراً اليوم للاختلاف مع السيد النائب الأول لرئيس الجمهورية الأستاذ المحترم “علي عثمان محمد طه” في ما يتعلق بنظرته وتقييمه للصحافة السودانية في عهد (الإنقاذ). فقد حملت أخبار الصحف أن “شيخ علي” عبر عن استيائه من أداء الصحافة خلال جلسة (معايدة) ضمته إلى عدد من رؤساء التحرير بداره العامرة بحي الرياض. وحسبما ما نُشر، فإن النائب الأول وصم صحافة هذا العهد بـ (التخلف)، قياساً إلى صحافة (الديمقراطية الثالثة) التي لعبت أدواراً مهمة وبارزة في الساحة السياسية!!
} النائب الأول قال اكتبوا على لساني إن المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية والحكومة فشلت جميعها في صناعة صحافة ناجحة ومتطورة!! قد يكون ذلك صحيحاً إذا كان المقصود (الصحافة الحكومية).
} ولكن بالضرورة فإن غالبية الآراء في الوسط الصحفي ستحمّل حكومة السيد النائب الأول – نفسه – مسؤولية تدهور الصحافة (المستقلة)، حال ثبوت كلامه، على الأقل في ما يتعلق بضرورة توفير (مناخ الحريات) اللازم لتطوير هذه المهنة، إذ لا صحافة بلا حريات، وإلا فإن بيت الشعر (الحكمة) يصدق لتوصيف حالة “شيخ علي” مع الصحافة في قول (الحلاج): (ألقاه في اليم مكتوفاً.. وقال له: إياك.. إياك أن تبتل بالماء)!!
} غير أنني لا أقف موقف المستسلمين والعاجزين، محملاً الحكومة وسلطاتها المختصة مسؤولية التدهور (المزعوم) في حال الصحافة السودانية لنقص في (الحريات)، أو انعدام في الدعم (المادي) و(المعنوي) الذي يقدم للمؤسسات الصحفية (القومية) و(المستقلة) في دول العالم من حولنا، ابتداء من “مصر” مروراً بالسعودية، والإمارات، وقطر، وسلطنة عمان، والكويت وانتهاء بالجزائر والمغرب.
} بل إنني أتجاوز هذا الموقف، مؤكداً من (عمق) الواقع، أن الصحافة السودانية تطورت خلال (ربع القرن) المنصرم، بما لا يُقاس ولا يقارن بصحافة حقبة الديمقراطية الثالثة (1985 – 1989).
} فمن ناحية الشكل الطباعي والإخراج الفني، فإن صحافتنا تجاوزت عصر الإخراج باستخدام (المقصات) و(البوستيك) في عقد ثمانينات القرن الماضي، إلى رحاب أجهزة (أبل ماكنتوش) في النصف الثاني من عقد التسعينيات، ثم توالت صيحات (الإخراج الفني) في صحفنا التي تستعمل الآن أحدث التقنيات و(برامج الكمبيوتر)، ما حقق طفرة هائلة في شكل الصحف السودانية عامة. وأذكر أنني كنتُ أحد المشاركين في معرض القاهرة الدولي للطباعة في العام 2008م ممثلاً لصحيفة (آخر لحظة)، وعندما قدمتُ نسخاً من الصحيفة للمهندس “علام” أحد أباطرة الطباعة في “مصر”، بدت الدهشة واضحة على ملامحه، وأخذ يقلب الصحيفة صفحة.. صفحة، ثم قال: (معقولة.. هو الجورنال دا بيطبع في السودان؟!!).
وأظن أن أهل الإعلام في بلادي والعالم العربي يسمعون عن (مجموعة علام للطباعة)، وهم وكلاء مطابع (هايد لبيرج) الألمانية الأشهر في الشرق الأوسط، وأظن أن شهادتهم هي الفاصلة في مستوى التطور الذي أدهشهم، على الأقل من ناحية الإخراج والطباعة. ولا بد لنا أن نشير هنا إلى القفزة التي أنجزتها مطابع (المجموعة الدولية) وقبلها مطابع (فاب – الخرطوم) و(الأشقاء) و(التصوير الملون)، والآن مطبعة “كرري” و(الكاظمية)، في تحديث وتجويد المنتج الطباعي باستخدام أفضل الأحبار وارقى أنواع الورق بدرجة (بياض) عالية تبلغ (72) درجة، بينما تطبع (الأهرام المصرية) – ست الإسم – بورق درجة بياضه أدنى من (62) درجة!! يحدث هذا رغم الضغوط الاقتصادية الهائلة التي يعاني منها الناشرون والطابعون (يومياً) جراء التدهور المستمر في (الجنيه) السوداني مقابل (الدولار).
} وربما لا يعلم السيد النائب الأول أن الصفحات تسافر عبر (شبكات إنترنت) خاصة من (معمل) الصحيفة في الخرطوم شرق – مثلاً – إلى (دسك) المطبعة مباشرة في أقصى (جبرة) أو (كوبر)، خلال (ثوان) معدودات، وأن الظروف الاقتصادية الحائلة دون المزيد من التطور تجعل (الدقيقة) الواحدة ذات قيمة عالية وأثر في (تقديم) و(تأخير) طباعة صحيفة على الأخرى، ولذلك تتسابق إدارات (التحرير) في إرسال الصحيفة إلى المطبعة مساء كل يوم لتصل قبل صحيفة منافسة أخرى، لأن فارق (دقيقة) أو (دقيقتين) يعني دخول السوق مبكراً قبل الرابعة صباحاً أو الخروج منه بخسارة ماحقة!!
} هل يعلم السيد النائب الأول أن (بعضنا) لا ينام إلا بعد أن يتأكد من أن الصحيفة تمت طباعتها بالكامل ما بين (الرابعة) و(الخامسة) صباحاً؟!
} هذا جهد كبير مرهق ومضن ومكلف، تقوم به شركات (خاصة) و(أفراد) من لدن الأستاذ “أحمد البلال الطيب” إلى الأستاذ “حسين خوجلي”، إلى ناشر (المجهر السياسي) وآخرين، دون أن يكون للدولة علاقة بهذا الجهد والمجهود، لا (مالياً) ولا (معنوياً) مقابل خدمات جليلة تقدم يومياً لهذه الدولة.
} ومن المظهر دعنا نذكّرك – سيدي النائب الأول – بالجوهر.. وأظنك تعلم رغم فارق (الإحساس) من على مقعد (الحكومة) وكرسي (المعارضة)، أن صحافة العشرين عاماً الأخيرة أكثر وقاراً.. واحتراماً.
} لا أحتاج لكثير استدلالات لأنسف نظرية أن الصحافة (الديمقراطية) كانت أفضل بسبب (الحريات)، لأنهم أفسدوا (الحريات) وسمموها وتسببوا في سقوط التجربة الديمقراطية بل والإساءة إليها.
} هل يقبل سيادة النائب الأول للرئيس أن تناديه إحدى الصحف – الآن – بـ (البجعة)؟! هكذا كانت صحافة الديمقراطية الثالثة تنادي (رأس الدولة) آنذاك؟! هل يقبل النائب الأول لنفسه والرئيس “البشير” أن يسخروا منه بألقاب مثل (السندكالي) التي كانت تطلق على رئيس الوزراء السيد “الصادق المهدي”، و(أبو ناعم) التي كانوا يشيرون بها لـ (مولانا) الحسيب النسيب؟! كان يسمون وزير شؤون رئاسة الجمهورية (براميلو).. فهل يقبل مثلها السيد الفريق أول “بكري حسن صالح”؟! و(درق سيدو).. و(الرويس السفساف)، وغيرها من الألقاب الفضائحية.. ثم عرض فضائح سياسية وأخلاقية (مدمرة)، ابتداء من قصة شريط الكاسيت الخاص بوزير الداخلية واتهام المسؤول الوطني المحترم بـ (التجسس)، ومحاصرة صحيفة (السياسة) بالشرطة لانتزاع (الشريط)، وإلى مطاردة عضو البرلمان القيادي (الإسلامي) في قضية السيارة (الليلية) المشهورة!!
هل يريدنا السيد النائب الأول أن ننحو هذا المنحى؟! ما أسهله.. وما أيسره.. لو تعلمون.
} بدون حريات.. فإن صحافة هذا العهد أفضل شكلاً ومضموناً.. بل هي الأفضل الآن بين مكونات الدولة الأخرى، فرياضتنا في الحضيض ومنتخبنا الوطني لكرة القدم تراجع إلى الخانة (135)!! واقتصادنا منهار.. وماليتنا خاسرة.. وبنكنا المركزي عجز عن محاصرة الدولار وحكومتنا غارقة في السيول والأمطار وحروب القبائل والجهات، والمعارضة فاشلة لا تجيد شيئاً غير عقد المؤتمرات الصحفية!!
وأحزابنا لا تمارس السياسة ولا تطبق الديمقراطية داخل مؤسساتها الغائبة، وأخطاء أطبائنا تقتل كل يوم العشرات في عنابر مستشفيات الإهمال واللامبالاة، ومهندسونا فاشلون وكل خريف يتأكد فشلهم عياناً بياناً.. و… و…!!
} وعلى هناتها وهفواتها، فإنه لولا الصحافة السودانية، لما عرف الناس كل هذا.. ولا عرفوا أن هنا (حكومة) وأن هناك (معارضة).. وأن مدينة سقطت وأن أخرى تحررت.. وأن (الدولار) ارتفع وانخفض.. وأن “سلفاكير” هنأ “البشير” بالعيد.. وأن “البشير” وافق على سريان البترول..
} هل تعلم سيدي النائب الأول أن تلفزيون السوداني (الرسمي) كان (قاطع صوت) لمدة ساعة كاملة ليل أمس الأول، دون أن يكون ذلك خبراً مثيراً في الصحف؟!
تحياتي واحترامي

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية