في (سوق العناقريب).. الماضي يعانق الحاضر
وأنت تتجول في سوق أم درمان تلفت نظرك أسرة و(عناقريب) ملونة وبأشكال مختلفة، منها (عنقريب الجرتق) و(الهباب) وغيرهما من (العناقريب) المعروضة في السوق، بجانب (البنابر) و(صواني الجرتق) والسحارات وهي خزائن (حبوباتنا) القديمة التي يستخدمها الناس اليوم للزينة في البيوت الأمدرمانية العريقة الذين يحتفظون بها حتى الآن.. وفي بحثنا في أمهات الكتب التي وثقت لسوق أم درمان وجدنا أن سوق (العناقريب) من أشهر الأسواق الأمدرمانية المتخصصة، ويقع في المساحة الممتدة من شارع السياط والعطارين، وسمي بسوق (العناقريب) بسبب انتشار محال صناعة وتجليد (العناقريب) بهذا الموقع، وهو سوق قديم يرجع تاريخه إلى مطلع القرن الماضي عندما كان الزبائن يتقاطرون إليه من أقاصي البلاد وأطرافها طلباً لشرائها، وتطورت هذه الصنعة إلى الأسرة المصنوعة من (الموسكي) إضافة إلى (المهوقني) و(الشبك) و(المانجو).. وكانت صناعة (العناقريب) تمر بمراحل متعددة يقوم العمال فيها بتشكيل أنواع متعددة لـ(العنقريب) المعروف لدى (حبوباتنا) وأجدادنا، وحتى الآن يستخدمه الكثيرون في فصل الصيف للتهوية ولتخفيف حدة درجات الحرارة العالية، أما (عنقريب) المخرطة فيخرط بخراطة الكتل الخشبية، ويعد “الشيخ السماني” وأولاده من أشهر صانعي (العناقريب) بسوق أم درمان، ثم تطورت عملية الخراطة هذه وأدخلت الآلة الكهربائية.
أما (عنقريب المنجرة) فتتم صناعته بواسطة (السيد)، ويستخدم القدوم في تسوية الخشب وتقسيمه، ويستعمل في صناعة (عنقريب المنجرة) خشب السنط والحراز كذلك، وتأخذ صناعته زمناً ليس بالقصير لأن كل مراحل العمل فيه تتم بواسطة (السيد)، وتتفاوت سرعة إنجاز تلك المهام التي توكل كل مرحلة فيها إلى فني داخل ورشة الخراطة من شخص لآخر، ويتوقف ذلك على درجة مهارة العامل وسرعته ودقته في أداء العمل.
و(العنقريب الهباب) الذي يتميز ببساطة تصميمه وتصنيعه هو أيضاً بلا مميزات جمالية من ناحية الشكل، وغالباً ما يستعمل لأغراض التنقل لخفته وسهولة حمله ويوضع في الغالب وسط (الحوش) أو (السَهلَة) عند ارتفاع درجات الحرارة في فصل الصيف وتستعمله (الحبوبات) وبعض التجار في (زرائب العيش)، أو القش في (الخلاء) داخل المشاريع الزراعية لسهولة حمله وخفة تحريكه من موقع لآخر.
{ أنواع الجلاد
يجلد (العنقريب) بالحبل الذي يصنع من خام نبات السعف، وكان الصنايعية بسوق (العناقريب) يجلبون هذا الخامات من منطقة (بور) بجنوب السودان ومناطق الصعيد والشمال، وغالباً ما تكون مصنعة من سعف النخيل.. أيضاً أدخلت حديثاً حبال الخيوط المتينة والناعمة الملمس وهي (مريحة) أكثر من السعف.
ويمضي “مدثر إبراهيم حاج حسين قسم السيد” قائلاً إن والده “إبراهيم حاج حسين” ورث هذه الصنعة من والده، وهكذا أصبحت متوارثة بينهم منذ عام 1024م، ومنهم أيضاً “مصطفى حسين قسم السيد” بجانب زملاء الصنعة “الحاج عبد الله سعد” و”الصادق الأمين” و”عثمان النور رحيمان” و”خير الله رجب”، ثم بعد ذلك ورثوا أبناءهم، وبدورنا طورنا هذه الصنعة. وقال “مدثر” حفيد “حاج حسين قسم السيد” إنه كان يذهب إلى جده يحمل إناء الغداء (العمود) من حي العرضة بعد حضوره من المدرسة، ويمكث في الدكان يتعلم فنون الصنعة من والده وجده إلى أن تعلمها وأجادها.
ويمضي “مدثر” قائلاً: يمر (العنقريب) بثلاث مراحل، ولكل مرحلة مختص يقوم بها.. الأولى توضيب الأخشاب بمقاسات معينة لطول الأرجل وتسمى هذه المرحلة (التخانة).. ثم تأتي بعد ذلك مرحلة العمل اليدوي مثل (عنقريب المخرطة) يدخل إلى (المخرطة) وينجر بـ(القدوم)، وفي الماضي كانوا يستخدمون (ماكينة القوش)، ثم تخريم الأرجل بأربعة اتجاهات تدخل منها شوكة (المرق) والوسادة التي تخرم بآلة اسمها (المقلام).. والمرحلة الأخيرة مرحلة تركيب (العنقريب) وتعالج الأرجل بالمعجون والصنفرة و(الجملكة) والدهان.
{ مشاهير في سوق (العناقريب)
ويمضي “مدثر” قائلاً: من أشهر الذين حضروا إلى سوق (العناقريب) واقتنوا مجموعة من (العناقريب) و(البنابر) ومجموعة من الصناعات التراثية، الفنان المعروف “كمال ترباس” و”سميرة دنيا” و”نهى عبد الكريم” والفنانة “حنان بلوبلو” و”ندى القلعة”.
{ النساء أكثر شراءً لـ(العناقريب)
في استطلاع لـ(المجهر) مع بعض النسوة قمن بشراء (عناقريب)، أكدن أن (العناقريب) مهمة في كل بيت سوداني فهي مهمة في الأفراح والأتراح، ففي الأفراح يستخدم (العنقريب) في عادة (الجرتق) المعروفة في التراث السوداني، و(العنقريب) مهم في حمل (الميت) إلى المقابر، ونحن عرفنا أن الأثاث المحلي أفضل من المستورد وهذا عن تجربة.
ويقول “مدثر إبراهيم حاج حسين” حفيد “إبراهيم حاج حسين قسم السيد” تاجر (العناقريب) لـ(المجهر) إن العمال داخل سوق أم درمان يفضلون (حبال الصعيد) لجودتها، ويضيف إن من أشهر الخراطين بسوق أم درمان وأولهم على سبيل المثال لا الحصر هو “فضل الله سليمان” وأبناؤه و”خير الله رجب” وأبناؤه و”الحاج عمر عبد الله” وأبناؤه و”الدرديري” و”الحاج السماني” الخراط، و”الحاج القاسم” وغيرهم.
ويمضي “مدثر” قائلاً: كان هنالك جلادون ينفذون جلاد (العنقريب) بأشكال ونماذج مختلفة، ويبدع ويتبارى الجلادون بسوق أم درمان في تنفيذه، فهم يتقنون فنون المهنة منذ ظهور المهدية وقبلها ولا يدركهم العناء في إخراج (الجلاد) بشكل جميل وجذاب، والجلاد أنواع مختلفة حسب طلب الزبون ورغبته، وهناك الجلاد العادي بالحبال المصنعة من السعف ويأخذ (عنقريب المخرطة) الذي يستخدم في (عادة الجرتق) للعرسان شكل جلاد السجادة، ولإضفاء المزيد من الروعة والجمال يستعمل بعض الجلادين حبال (الدبارة) فهي أكثر نعومة وجاذبية ومريحة عند الاستعمال، ويجلد (عنقريب القد) من جلد البقر بعد أن يقطع وهو رطب إلى شرائح عرضها (2) سم، ويستعمل قبل أن يجف لأنه ينكمش بسهولة.
{ أسعار (العناقريب)
ويستطرد “مدثر” لـ(المجهر) قائلاً: كانت أسعار (العناقريب) بسوق أم درمان منذ المهدية أو لنصف قرن تتفاوت حسب الخام المستخدم ونوعية (العنقريب)، بالرغم من قلة السيولة في ذلك الوقت، وكانت سائدة طريقة (تبادل السلع) بديلاً للنقد، فكان سعر (العنقريب المنجرة) (120) قرشاً، ويعدّ (عنقريب الهباب) و(أبو حراز) الذي يجلب من الجزيرة أبو حراز من أرقى أنواع (العناقريب) وكانت قيمته (2) جنيه، و”أبو سراج” الذي كان يأتي من جنوب السودان كانت قيمته تتراوح ما بين (4) و(5) جنيهات، وهو يعد من أغلى أنواع (العناقريب) فهو بالإضافة إلى أنه جميل الشكل يصنع من خامات غالية، وكانت تقتنيه شريحة الموظفين في دولة المهدية من قضاة ومعلمين وغيرهم.