التعديل الوزاري .. إرهاصات أم حقائق؟
التسريبات التي نشرت في الصحف الأسبوع الماضي عن التعديل الوزاري المرتقب في صفوف وزراء المؤتمر الوطني دون الإشارة لحلفائه الآخرين، تسريبات (معقدة) من جهات في الحكومة لها مصلحة في قراءة ردة فعل الرأي العام إزاء تلك التسريبات، في وقت زعمت فيه مصادر وثيقة الصلة بحزب المؤتمر الوطني أن الرئيس “عمر البشير” وزع ورقة بيضاء على أعضاء المكتب القيادي وطلب إليهم ترشيح وزراء لحقائب الحكومة الحالية على أن لا يزيد عمر المرشح عن (50) عاماً.. والنبأ بهذه الصيغة يعزز اتجاهات تعلو ويخفت صوتها داخل المؤتمر الوطني تنادي بالتجديد وإحالة الجيل الذي ظل في الحكم لمدة (24) عاماً للتقاعد الإجباري وتصعيد جيل جديد بعد أن نضب معين الجيل الحاكم حالياً من الرؤى والأفكار التي تعين سفينة الحكم على الإبحار، ولكن هل الرئيس “البشير” بطلبه لقيادة حزبه ترشيح وزراء دون سن الـ(50) عاماً يسعى حقاً لخفض أعمار لاعبي فريق الإنقاذ خطوة واحدة بدلاً عن التجديد خطوة إثر أخرى؟ وما هي الآثار المترتبة على إحالة كل الخبرات والكفاءات فجأة لرصيف المعاش الإجباري؟ وإحلال مكانهم جيلاً شبابياً يفتقر للخبرة، ويبقى الرئيس وحده في الملعب (كابتناً) للفريق الجديد حتى موعد الانتخابات القادمة 2015م، ليغادر الرئيس آخرهم بدلاً عن أولهم كما جاء على لسان الصحافي الأستاذ “محمد لطيف” القريب جداً من مراكز صناعة القرار في الدولة والمطلع على خفايا وأسرار الرئاسة! مع أن مسألة إعادة ترشيح الرئيس لدورة قادمة أصبحت حقيقة داخل المؤتمر الوطني وخارجه وتراجعت التيارات الداعية للتغيير والإصلاح، وأصبح الرئيس “عمر البشير” وحده الرجل المتفق عليه داخل حزبه والقيادة التي لا بديل لها على الأقل في الخمس سنوات القادمة.
وإزاء بقاء الرئيس في موقعه لدورة قادمة حتى 2020م، هل التجديد المرتقب في الحكومة حقيقة واقعة؟ أم هي أحلام بعض المتطلعين للمواقع التنفيذية؟
– نضوب فكرة وتراكم خبرة:
أكثر من (24) عاماً وبعض الوزراء يتقلبون في المواقع كالفراشات بين الأزهار.. تسقط حكومات وتنهض أخرى وهم في مواقعهم ثباتاً لم يعرفه جيل من قبلهم.. خاضوا حرب الجنوب وفاوضوا وصالحوا وانقسم الوطن وهم في مواقعهم.. حتى جغرافية الوطن تبدلت ولم تتبدل بعض الوجوه.. تأرجحت السياسات الاقتصادية من اقتصاد الدولة القابضة إلى حرية جزئية للسوق والنخبة الاقتصادية التي تدير الشأن الاقتصادي هي ذات النخبة والأسماء.. “صابر محمد الحسن” “عبد الرحيم حمدي” و”حسن أحمد طه” و”الزبير أحمد الحسن” ود.”عوض أحمد الجاز” ولا يزالون متشبثون بمواقعهم، والنخبة السياسية التي دبرت وفكرت وخططت لثلاثين يونيو لم تغشها عوامل الشيخوخة أو تحدثها نفسها بأن لكل زمان رجال، فهل أجيال مثل د.”عوض أحمد الجاز” و”مصطفى عثمان” و”علي عثمان محمد طه” و”بكري حسن صالح” و”أحمد عبد الرحمن محمد” و”أحمد إبراهيم الطاهر” و”عبد الرحيم محمد حسين” يستطيع الرئيس الاستغناء عنهم جميعاً وإحلال تيار شبابي في مواقعهم. وقد أعطى هذا الجيل ما بوسعه ونضب معين فكره، ولكن التغيير صعب وعصي جداً.. وقد ألف الرئيس هؤلاء وألفوه.. وتنامت وشائج الحب والصداقة، وكيف بعد كل هذه العشرة أن يتخلى الرئيس عن رجاله الأوفياء التُقاة؟ تلك هي الاعتبارات العاطفية التي تحكم في كثير من الأحيان تصرفات السياسيين وتكبل خطى الإصلاح.. بينما واقع الدولة اليوم يلح إلحاحاً لضرورة تغيير المنهج قبل الأشخاص والسياسات قبل المواقع والأزمة السياسية التي تعيشها البلاد من انقسام في الجبهة الداخلية وتصاعد الحرب من الأطراف للوسط وتباعد المسافات كل يوم بين أحزاب المعارضة والأحزاب الحاكمة، وتبدد حلم تراضي السودانيين على دستور متفق عليه من جهة أكثرية أهل البلاد.. وبدأ رهان الأطراف المتصارعة على قدرة أي طرف على إقصاء الآخر وإزاحته من المسرح، فالمعارضة السياسية نسجت لها تحالفات مع حاملي السلاح ووضعت رهانها على بندقية المليشيات المسلحة بدلاً عن الرهان على التغيير الديمقراطي عبر صناديق الاقتراع، والحكومة بدأت زاهدة في التفاوض مع حاملي السلاح.. الشيء الذي يجعل التغيير الداخلي وتجديد دماء الحكم ربما جاء بقيادات لها رؤى وأفكار تجسر المسافات بين المؤتمر الوطني والقوى التي تحمل السلاح وداخل حزب المؤتمر الوطني هناك قيادات تحظى بقبول وثقة المعارضة بما في ذلك حاملو السلاح..
واقتصادياً ثمة حاجة أكثر إلحاحاً لبرنامج اقتصادي جديد لتحريك عجلة الإنتاج التي تعطلت تماماً.. وتراجعت فرص قيام مشروعات تنموية، وبانت الدولة عاجزة عن الوفاء باستحقاقات مشروعات كطريق الإنقاذ الغربي ومحطة كهرباء الفولة والإنفاق على مشروع الجزيرة وارتفعت معدلات التضخم لنسب وصلت (47%) وبلغ سعر الجنيه السودان مقابل الدولار الأمريكي (7) جنيهات ونصف في السوق السوداء يوم (الخميس) أمس الأول.. كل ذلك قبل أن يغلق (صنبور) بترول الجنوب نهائياً في غضون أسبوع من الآن، وقد مهد مجلس وزراء حكومة الجنوب لقرار مثل هذا الأسبوع الماضي حينما استبعد تماماً إيرادات البترول من ميزانية العام الجاري.. وبدأت الجهود الدولية والإقليمية لإنقاذ اتفاقيات التعاون بين السودان وجنوب السودان متناقلة وغير ذات جدوى في ظل تصاعد الأوضاع الداخلية بدولة الجنوب من جهة ونشاط العمليات العسكرية للجبهة الثورية من جهة أخرى في شمال كردفان مرة أخرى.
وفي ظل هذه المناخات يمثل التغيير والتجديد في وزراء الحكومة وسياساتها بارقة أمل لغد أفضل، فهل يقبل الرئيس على تعديل واسع كما جاء في صحف الأسبوع الماضي؟ أم يتمخض الجبل ويلد فاراً، وتمارس الحكومة سياسة التنقلات، ذهب “علي محمود” للصناعة و”المتعافي” للمالية ويجمع لـ”عوض الجاز” الطاقة والتعدين وينتقل الفريق “عبد الرحيم محمد حسين” من القيادة العامة للقصر ويحل مكانه الفريق “بكري حسن صالح” ويرتقي البروفيسور “غندور” لوزارة الخارجية ويذهب “علي كرار” لوزارة الداخلية وتبعث وزارة الشئون الإنسانية من العدم ليعتليها المهندس “إبراهيم محمود حامد” مثل هذه التنقلات لكشوفات الوزراء لا تنصيف جديداً ولا تضخ دماءً في أوصال الحكم وخير منها أن يبقى كل وزير في موضعه!
– ما وراء تغيرات كردفان؟!
لا يزال الجدل في الساحة محتدماً عن دواعي وأسباب التغييرات التي طالت ولاة كردفان الاثنين وانتقال مولانا “أحمد هارون” من جنوب الولاية إلى شمالها؟ وهل ثمة محاولة خجولة ومستمرة لعودة إقليم كردفان بقيادة مركزية في الأبيض وقيادات مساعدة في كل من كادقلي والفولة؟
وعزز من ضبابية المشهد التصريحات والأقوال الصادرة من ولاة جنوب وغرب كردفان خلال (تدشين) سلطتيهما في كادقلي والفولة بالإشارة لتنسيق ثلاثي لإدارة الشأن الكردفاني وما نقل على لسان النائب الأول لرئيس الجمهورية “علي عثمان محمد طه” عن مطالبته الولاة الثلاث العمل معاً لخدمة مصالح المواطنين والتنسيق الأمني المشترك.
وجاء على لسان “آدم الفكي محمد الطيب” وهو سياسي لا ينقصه النضوج ولا الفطنة وهو يتحدث لجماهير الأبيض أنهم يلعبون سياسة على طريقة كرة القدم وإن موضعه هو و”أحمد خميس” في وسط الملعب لقطع الكرات ومن خلفهم (ثيردباك) “أحمد هارون” سيتصدى للهجمات إن هي تخطت الوسط.. وبدا من حديث “الفكي” أن الفريق الذي يلعب هو في وسطه فريق طابع لعبه دفاعي وإلا لوضع “هارون” في خانة رأس الحربة لإحراز الأهداف لا منعها من ولوج الشباك.. فهل التقديرات الأمنية الدفاعية هي التي اقتضت التغييرات الكردفانية؟ إذا كان الملف الأمني وراء التغييرات، فإن العقلية القتالية الماكرة في الفريق الثلاثي قد تم وضعها في مركز الدفاع المتأخر.. فهل في حسابات الحكومة المركزية أن ميدان المعركة القادمة مع الجبهة الثورية وقطاع الشمال هو ولاية شمال كردفان وليس جنوبها أو غربها؟ ولماذا احتفلت الحركة الشعبية في معسكراتها بكاودة وكل مناطق وجودها في جنوب كردفان بتغير مولانا “أحمد هارون” من كادقلي للأبيض؟ هل احتفالات الحركة سياسية باعتبار “هارون” هو من سرق الكرت من تحت (مخدة) “عبد العزيز الحلو” في الانتخابات الأخيرة وابتهجت الحركة بخسارته لمقعد الوالي في كادقلي؟ أم أن الحركة ابتهجت بذهاب “هارون” لدوره في الدفاع عن كادقلي ومواجهته للحركة عسكرياً بشجاعة كادت أن تكلفه روحه في معركة الأحيمر العام الماضي، ولعب “هارون” دوراً عسكرياً مهماً في التصدي لهجمات المتمردين حتى أستيأسوا من الوصول لكادقلي؟
القراءة غير المتربصة بالتغييرات تذهب إلى أن الضرورات اقتضت أن تعود ولاية غرب كردفان واختيار شخصية عسكرية متفقاً عليها مثل “أحمد خميس” لمنصب الوالي خاصة بعد أن تم ترشيحها من جهة د.”عيسى بشري” وزير العلوم والتقانة الذي يحظى بثقة الرئيس المطلقة مما وضعه في مرتبة المرشحين لمنصب مساعد الرئيس في مقبل الأيام.. ووجود “أحمد خميس” في الفولة خفف من حدة التنافس بين قيادات حمر في شمال الولاية والمسيرية في جنوبها.. رغم أن اللواء “أحمد خميس” ثقافياً واجتماعياً أقرب للمسيرية من الحمر ولكنه وجوده في ولاية مهددة بالتمرد من قبل بعض منسوبي المسيرية والنوبة يجعله قادراً على التعامل معهم بالحسم المطلوب والتفاهم المنتظر.. وتمتد العلاقة بين “أحمد خميس” ومولانا “أحمد هارون” للنصف الأول من التسعينيات حينما كان “أحمد خميس” في رتبة المقدم باستخبارات القوات المسلحة و”أحمد هارون” مساعد للوالي “حبيب مختوم” في وظيفة مدير إدارة السلام وإعادة التوطين وبين الرجلين ود قديم وتفاهم خططي ومنهجي ودعم د.”عيسى” لتعيين “أحمد خميس” قد حسم كثيراً من الجدل الذي ثار في فترة ما بعد عودة الولاية وفرص نجاح “خميس” رهينة بتجاوزه لملف الصراع القبلي بين بطون المسيرية والتوازن بينهم والحمر.
أما الحديث عن إقليم لكردفان – يديره “أحمد هارون” لا يعدو تخرصات لأعداء الرجل وما أكثرهم داخل النظام وخارجه ولو كانت الإنقاذ على قناعة بعودة نظام الحكم الإقليمي السابق لما احتاج الأمر لأن يدير “هارون” الإقليم من وراء ولاة آخرين لهم كامل الأهلية ومطلق الصلاحيات في اتخاذ من القرارات مما يعزز إدارتهم لشئون ولايتهم.. ولكن مولانا “هارون” وضعت على عاتقه آمال وتطلعات كبيرة.. وارتفعت الروح المعنوية لمواطني شمال كردفان وساد تفاؤل بأن كل مشكلات الولاية المتراكمة منذ عشرات السينين حان أوان حلها.. بيد الوالي “هارون” والتفاؤل والآمال العريضة لعامة الناس تمثل حملاً ثقيلاً على رجل وضعته الأقدار في عين العاصفة، والدولة تعاني شحاً في الموارد وعجزاً كاملاً عن تنفيذ أي مشروع تنموي دع من حل مشكلتي طريق (بارا ــ أم درمان) ومياه الأبيض والتي يواجه مدها من النيل عثرات كبيرة واعتراضات داخلية وخارجية.