مطاعم الخرطوم في رمضان.. الأكل خلف الستائر السوداء!!
رمى ببصره ذات اليمين وذات اليسار قبل يستجمع أنفاسه ويحشدها داخل قفصه الصدري وينفثها زفيراً نمَّ عن ارتياح عميق بأن لا أحد ممن يعرفهم أو من المارة قد لاحظ خطواته المسرعة التي كانت تقصد بتردد بائن ذاك المطعم الخرطومي الذي تدلت من أبوابه (ستارة) معتمة قصد واضعوها أن تكون ذات (ساتر) للباحثين عن وجبة تخمد بعض صرخات الجوع، أو تلك الثورات التي تتعالى صياحها داخل بطونهم قد تكون لهم بمثابة (سندة) إلى أن يحين فرج آخر.. دلف الشاب إلى ذاك المطعم واستخرج من جيبه الخلفي بأيدٍ مرتعشة أوراق نقدية ممزقة (دفع) بها إلى (الكاشير) الذي كان يتوسط المنضدة الموجودة عند (ناصية) المطعم.. وبذات الارتعاش الذي كان في أيدي الشاب بدا ارتعاشاً مماثلاً في صوته حين خاطب الـ(كاشير): (بالله أديني واحد فول).. وتلقف (الكاشير) طلبات الزبون وبطريقة مدربة منحه (ماركة) الطلب ودس في يديه (الباقي) الذي قلبه بدوره بامتعاض واضح بعد أن علم أن (طلب الفول السادة) قد زاد ثمنه بمقدار ثلاثة جنيهات كاملة، إلا أنه لم ينطلق بكلمة لعل ضميره كان يوخزه، رغم أن الشاب كان مدركاً في غرارة نفسه أنه اضطر إلى الإفطار بعد أن نصحه الأطباء بذلك بسبب العلة المرضية التي كان يعاني منها، ورغم ذلك رفض الإذعان لأوامرهم غير أن ضغوطاً مارسها عليه أقرباؤه جعلته الآن في عداد (الفاطرين اضطرارياً في رمضان).
لم يستغرق الموقف أعلاه سوى أكثر من دقيقة واحدة، ولكنها كانت كافية لكي تؤشر على الاضطراب الذي يعانيه كثير من الفاطرين بأعذار طبية أو (شرعية) خلال الشهر الكريم.. تلك الأعذار ربما حفزت كثيراً من أصحاب المطاعم إلى البحث عن مصدر رزقهم ببيع الأطعمة في نهار رمضان (تغطيها ستارة ماهلة) ربما مراعاة لشعور الصائمين أو قد تكون لتوفير مكان بعيد عن الأعين المتلصصة التي تمارس مهنة تتبع الناس بفضول.
(ستائر بألوان داكنة)…
كانت معظم شوارع العاصمة في ذلك الوقت خالية من المارة، إلا من بعض السيارات التي كانت تجر إطاراتها جراً كأنما غشيتها حالة (الكسل) الرمضاني التي أصابت كثيراً من الناس خلال الأيام الأولى لشهر الصيام.. وقبالة أحد الشوارع التي قلت فيها الحركة كان ذاك المطعم منصوباً بلافتته الشهيرة التي توارت هي الأخرى خلف (الستار القماشي العريض) وبداخله أناس عاديون من فئات عمرية مختلفة (شباب ومسنون ونساء) بعضهم ينقل ببصره إلى القادمين الجدد الذين كان أغلبهم يضم بين يديه (ساندويتش) يقضم منه على استحياء بالغ.. جلسنا أمام أحدهم بعد أن رمقنا بنظرة استنكار بدت واضحة رغم محاولاته المستميتة أن يجعلها (لا مبالية)، وانتقلت تلك النظرات لتصبح أكثر حدة حين حاولنا أن نفتح معه حواراً، إلا أن نظراته الحادة ألجمتنا للحظة وكففنا لساننا عنه.
أعذار شرعية
عند ركن منزوٍ جلست سيدة تعصر على صدرها طفلاً صغيراً لم يتعدِ عمره عاماً واحداً، وربما أن ملامح الطيبة التي بدت على محياها، حفزتنا على إدارة حوار صغير معها، فقصدناها بغير تردد وألقينا عليها التحية فردت بأحسن منها.. وسألناها عن سبب قصدها لهذا المطعم مسدل الستائر، في التفاتة واضحة لعدم سؤالها مباشرة عن سبب إفطارها، فردت بكلمات متتابعة (أنا أصلاً فاطرة لانو عندي شهور رضاعة لطفلي ده… وأنا جبتو الحوادث هنا عشان عندو التهاب شديد.. وفي أولاد (حلال) دلوني على المطعم ده وغايتو كتر خيرهم وفروا لينا وجبة الفطور رغم انو سعرها زائد شوية).
(دبل) في أسعار الوجبات بسبب التصاديق
طوال الوقت الذي كنا فيه ضيوفاً أظن أنه (غير مرغوب فينا) داخل المطعم ذي الستائر الزرقاء، كان عدد غير قليل من الشباب يأتي إلى المطعم بخطوات متسارعة وأعين زائغة يقلبونها في المكان ويلتهمون ما بأيديهم من (ساندوتشات) طعمية وفول وشاورما على عجل، ثم يغادرون المكان بعد أن يتأكدوا من خلو آثار (الوجبة الطارئة) على أفواههم.
كان المطعم يضم الأكلات البلدية وغير ذلك (العصائر) والمياه الغازية، وستات شاي يتناثرن على المكان، وبائعة طعام تتوسط المكان تتراص أمامها كثير من الأواني و(الحلل) التي تحمل في جوفها ما لذ وطاب من أنواع الأطعمة، جلسنا أمامها وسألناها عن أسعار الطلبات، فأجابت (طلب الشية بـ(15) جنيهاً والفول بـ(7) جنيهات والبلدي بـ(9) جنيهات)، وعندما سألناها عن سبب هذا الارتفاع في أسعار تلك الوجبات ردت قائلة: (عشان نحن كمان بيشيلو مننا تصديق بالشيء الفلاني)، وعندما سألناها عن قيمته ردت (1000) جنيه، وأوضحت أن الستائر المسدلة القصد منها توفير أماكن هادئة لذوي الأعذار لتناول وجباتهم حتى لا تتسلل إليهم أعين الناس.
وأمام إحدى ستات الشاي التي كان يتحلق حولها عدد غير قليل من الشباب وكبار السن، أوضحت أنها تدفع رخصة مقدارها (600) جنيه خلال هذا الشهر، وهو ما يضطرها إلى رفع أسعار المشروبات الساخنة إلى الضعف.