حتى لا ننساهم وهم في علاهم .. الذكرى العاشرة للفقد الدائم "عمر نور الدائم"
مرت الأيام والليالي والأعوام عاماً يتلوه عام، والجرح النازف للفقد الفاجع المدوي لـ”عمر نور الدائم” وصديق روحه الشيخ القارئ لكتاب الله الكريم راتب مهدي الله “محمد بن عبد الله” الشيخ الورع التقي “عبد الله إسحق”، لا يتوقف عن النزف والإيلام.. لقد مضيا إلى ربهما في أول أيام الشهر الكريم، وقد صفدت شياطين الإنس والجن بالأغلال، وفتحت أبواب الرحمة والغفران والعتق من النار على قدر ما وسعه علم الله جلّ وعلا. وكانا عائدين من رحلة أديا فيها واجب العزاء في فقيد عزيز رحل عن الدنيا.. صار أول يوم في رمضان من كل عام ذكرى لذاك الرحيل الفاجع، الذي رضي به الجميع لأنه قدر مقدور من عنده تعالى.
وبمناسبة هذه الذكرى، أود أن أسلط بعض الأضواء على مسيرة وسيرة هذه الشخصية الفذة النادرة، عسى أن تكون ذكراها نبراساً يضيء للأجيال الناشئة بعضاً من ظلمة الطريق، وقدوة حسنة لهم.
ولد د. “عمر محمد نور الدائم” عام 1934م، بقرية (نعيمة) بشمال النيل الأبيض وسط التهليل والتكبير وهدير النحاس والطبول، فهو سليل (آل هباني) أهل الشرف الباذخ والعزة القعساء والسيوف التي تقطر دماً من لدن الناظر “ناصر ود نمر” فارس المهدية المعلم وأمير جهادها المعروف، وابن أخته الناظر الفارس الحكيم “آدم هباني” الذي لا زال نحاس النظارة في ذريته “عمر إدريس هباني” ووكيله “هباني يوسف هباني” مع كوكبة مضيئة أنارت البلاد وخدمت العباد.. وهو أيضاً حفيد الشيخ العارف بالله صاحب الراية العالية والنوبة الداوية “إدريس أبو البتول”.. لقد كان يوم مولده عزة للدنيا والدين.. لقد تربى في هذه البيئة الصاخبة، فالخلوة والديوان يموجان بالوفود من كل فج عميق ليشهدوا منافع لهم.. وكانت آيات القرآن الكريم وأدعية الراتب الشريف أول ما يسمع في الصباح وآخر ما يسمع قبل أن ينام، فشب على التقوى مستقياً زاهداً شجاعاً محباً للناس من كل المشارب حتى تخرج في جامعة الخرطوم مهندساً زراعياً مهيباً ومحترماً، ونال درجة الدكتوراه في الهندسة الاقتصادية من جامعة ألمانيا.. ودخل السياسة بعد ثورة أكتوبر عام 1964م، بعد أن استقال من وظيفته الحكومية، وهنا لمع نجمه السياسي نائباً عن دائرة (أم رمتة) بالنيل الأبيض، ثم وزيراً للزراعة عام 1966م، في حكومة صديقه السيد “الصادق المهدي”.
لقد كان الفقيد العزيز، الوحيد من أعضاء المكتب السياسي لحزب الأمة جناح السيد “الصادق المهدي” بعد الانشقاق الشهير الذي يفوز بمقعد في برلمان 1968م، بعد أن استطاع الإمام الشهيد “الهادي المهدي” إسقاط جميع أعضاء المكتب السياسي بجناح السيد “الصادق” بمن فيهم السيد “الصادق” نفسه، إذ فقد مقعده في دائرة الجبلين لصالح منافسه السيد “محمد داوود الخليفة”. وقد كان المراقبون يرجحون أن يقود د. “عمر نور الدائم” المعارضة في البرلمان، ولكن الموازنات القبلية والجهوية قد أطلت بوجهها فأصبح الوزير “أحمد إبراهيم دريج” الذي انضم لحزب الأمة من جبهة نهضة دارفور زعيماً للمعارضة في أغرب برلمان شهده السودان، إذ كان زعيما الأغلبية (الحكومة) والأقلية (المعارضة) كلاهما من حزب الأمة، يتبادلان الاتهامات والسخرية والتهكم من بعضهما البعض. وقد قبل د. “عمر نور الدائم” بروح رياضية العمل تحت قيادة زعيم المعارضة “أحمد إبراهيم دريج”، كما بادر من قبل بتقديم استقالته من وزارة الزراعة عندما لاحت في الأفق بشائر رتق للفتق في الحزب العتيد، وكادت المصالحة أن تتم بين الجناحين، فدخل الوزارة السيد “أحمد المهدي” وزيراً للدفاع والمهندس “محمد خوجلي” وزيراً للزراعة خلفاً لدكتور “عمر نور الدائم” في حكومة السيد “الصادق المهدي”، ولكن سرعان ما خابت الآمال عندما فشلت المصالحة وحجبت الثقة عن حكومة السيد “الصادق”، وانتخب “محمد أحمد محجوب” رئيساً للوزراء للمرة الثانية، وتبادل المواقع مع السيد “الصادق المهدي” في رئاسة الوزراء والمعارضة.. كان د. “عمر” نجماً لا تخطئه العين في البرلمان والحكومة بسمته المميز وبساطته ووضاءة طلعته، فكانت ترمقه العيون وتهفو إليه القلوب محبة وإجلالاً.. كان حزب الأمة في عنفوان قوته ومجده بالرغم من الانقسام وسط قياداته، لأن القاعدة كانت موحدة ورافضة للانقسام. وكان “عمر نور الدائم” و”عبد السلام أحمد فضيل” و”تبيرة إدريس هباني” و”عبد الله محمد أحمد” ومحمد عبد الله الخضر” وأحمد إبراهيم دريج” و”عبد الرحمن صالح الطاهر” و”حماد صالح أحمد” و”أبو القاسم يعقوب آدم” وأحمد عمر” و”محمد داوود الخليفة” و”فاروق علي البرير” و”بكري أحمد عديل” ود.”آدم محمد موسى مادبو” يمثلون الوجه الشبابي المشرق المتعلم للحزب، وكنا ونحن طلاب في الثانويات ننظر إليهم بالإعجاب والتقدير، وكان “عمر نور الدائم” أحد مساعدي الأمين العام، عندما كانت الأمانة العامة للحزب هي الدينمو المنظم والمحرك لأنشطة الحزب، إذ إن منصب رئيس الحزب يكاد أن يكون شرفياً. وقد قادت الأمانة العامة الحزب منذ إنشائه عام 1945م كأول حزب سياسي يطلق الصرخة الأولى لميلاده، ثم جاءت المواليد الحزبية من بعده تترى، وقد تم أول اختيار لرئيس للحزب عام 1949م، وكان أول رئيس للحزب هو السيد “الصديق المهدي” (الإمام الصديق فيما بعد)، وقد تولى الأمين العام للحزب آنذاك الأميرالاي “عبد الله خليل بك” رئاسة الحكومة عام 1956م باعتباره السلطة التنفيذية الأولى في الحزب، وقد قاد الاختلاف بين رئيس الحزب السيد “الصديق” والسكرتير العام (هكذا كان يسمى) الأميرالاي “عبد الله خليل بك” إلى الظروف التي أغرت القيادة العامة للقوات المسلحة بقيادة الفريق “إبراهيم عبود” للقيام بأول انقلاب عسكري في تاريخ السودان، فاتحاً الطريق أمام سلسلة من الانقلابات العسكرية التي أثرت سلباً على التطور السياسي الديمقراطي والتداول السلمي الديمقراطي للسلطة في البلاد.
كان د.”عمر نور الدائم” خارج الوطن في رحلة علاجية عندما وقع انقلاب 25 مايو 1969م المشئوم، فكان صوت “عمر نور الدائم” هو أول صوت أدان الانقلاب وطالب الشعب بمقاومته، وعمل مع صديقه “الشريف حسين الهندي” الذي استطاع الإفلات من النظام والخروج من الوطن، والأستاذ “عثمان خالد مضوي” ممثل الإخوان المسلمين، والسيد “ولي الدين الهادي” الذي كان يدرس بالخارج، عملوا معاً أول خلية للجبهة الوطنية السودانية، وقد تنازل لـ”الشريف حسين” عن رئاسة الجبهة الوطنية فالدكتور “عمر” يهمه العمل ولا تهمه المواقع والمناصب والإعلام.
لقد كانت الجبهة الوطنية تعمل أولاً في أثيوبيا التي هاجر إليها آلاف الأنصار إلحاقاً بإمامهم الذي بدأ الهجرة إلى أرض النجاشي، ولكنه اغتيل وصاحباه “سيف الدين الناير” والعمدة “أحمد المصطفى” في الكرمك، ولكن الأنصار تدفقوا عبر شبكة عنكبوتية من الوكلاء والمندوبين والأنصار إلى مناطق (شهدي) و(قندار) في أثيوبيا وقد واجهوا أهوالاً يشيب لها الولدان من أجل الإسلام والسودان حتى أكلوا ورق الشجر.. ثم انتقل العمل إلى المملكة العربية السعودية، وقد كان معهم الأستاذ “أحمد عبد الرحمن محمد”
ثم جاء نصر الله والفتح، عندما فتحت ليبيا أبوابها للمعارضة التي قدمها لها المفكر الإسلامي الراحل “بابكر كرار”، وكان د. “عمر نور الدائم” أول معارض تطأ قدماه أرض ليبيا، ثم تطورت العلاقة إلى المستوى الذي مكّن المعارضة من استعراض قوتها وقواتها في زحف شعبي مسلح زلزل أركان النظام المايوي في الثاني من يوليو 1976م المجيد في قلب الخرطوم، وقلب الموازين كما قلب تفكير النظام رأساً على عقب، مما قاد إلى المصالحة الوطنية الشهيرة في 7/7/1977م بين النظام المايوي والجبهة الوطنية.
نواصل