(الآبري) .. عطر رمضان الذي يضمخ اجواء السودان !!
تفوح هذه الأيام من معظم البيوت السودانية بالمدن والقرى العريقة رائحة (الآبري) المشروب السوداني الأول والرسمي على المائدة الرمضانية طيلة الشهر العظيم الذي اقتربت إطلالته لتعيش الناس أيام الرحمة والمغفرة والعتق من النار، ومنذ شهري رجب وشعبان تبدأ النسوة في تجهيزه بجانب (الحلو مر) الذي لا يختلف كثيراً عن (الآبري) في طريقة الصنع، فأولى الخطوات هي عمل (الزريعة) تجهيز حبوب الذرة خاصة (الفتريتة) بعد بله بالماء وتركه ثلاث ليالٍ أو أكثر ينبت في الظل ومن ثم يجفف ويطحن لتتم (عواسته) بعد إضافة مواد أخرى.
{ في يوم (الآبري):
تؤكد الحبوبة “أم الحسن حسن” التي وجدناها تتوسط جاراتها بمنزلها يشرعن في عمل (الآبري) في صباح مبكر ليعاس في صباح باكر تفادياً لارتفاع حرارة الجو، تقول إن (الآبري) هو مشروب رمضان الأول في السودان ولا يخلو بيت من (جك) (الآبري)، وسألناها عن سر الاهتمام بعواسة (الآبري) وتحضيره كل عام فأوضحت أنها ومنذ نعومة أظفارها ولأكثر من ربع قرن كانت تشارك جدتها ووالدتها في صنع (الآبري) وتدرك وهي طفلة عندما ترى الذريعة وتشتم رائحته الذكية أن رمضان قد جاء وتفرح لقدومه بعواسة (الآبري)، وتضيف إنه مشروب مفيد وأثبت أنه سيد مشروبات رمضان على الرغم من ما يشاع عنه من أنه مؤذٍ لمرضى القولون والسكري، وأوضحت إذا عمل بطريقة جيدة ومن مواد مفيدة لا تؤذي كثرتها فيه المعدة، وهو لا يسبب أي أضرار وإلا لما أبقى عليه الأجداد و(الحبوبات)، الصغار والكبار يتناولونه في كل عام في شهر الصوم لما يقارب المائة عام هي تاريخ وجوده بالسودان.
ويجد الزائر لبيت “أم الحسن” الكثير من النسوة، يأتين للمجاملة كما هو معهود في البيوت السودانية، إضافة إلى مساعدة بعضهن البعض، وبخاصة الجيران، وهناك التقينا بـ”سامية علي” التي قالت إن (الآبري) لا غنى عنه، وهو مشروب يصعب أن يزاح من على المائدة الرمضانية وفي كل عام تحضره لأولادها وتهدي وتتصدق منه للفقراء والمساكين، وبعد رمضان تبقى كما يقال (طرقات) لفافات منه تقدم عصيراً طازجاً للأعزاء يقدم فيذكر برمضان وأيامه الكريمة.
أما الحاجة “نفيسة الشيخ” ذات الشلوخ والوسامة كانت تحيطها مجموعة من الأواني، أمامها مباشرة (حلة) ضخمة، فسألناها عن طريقة الإعداد فلم تبخل بأن تمدنا بأجود وصفات (الآبري) وبدأت: إن طحين (الزريعة) من (الفتريتة) جيد لصنع (آبري) ذي طعم ومذاق لذيذ، وذلك بعد إضافة المواد الأساسية وهي بمقادير معينة، الزيادة والنقصان فيها يؤدي إلى خلل في أي (آبري) فأوضحت أن توابل (الغرنجال والزنجبيل والقرفة والكمبة وقليل من الهبهان) مهمة بجانب القليل من البهارات منها (الكزبرة والشمار الأخضر)، كما يمكن إضافة بعض الأعشاب المفيدة ذات الرائحة الطيبة مثل (المحريب) و(الحلبة) و(الكمون الأسود)، وتبين أنها تضاف بعد طحنها للدقيق ومن تضاف كما قالت سابقاً “أم الحسن” أشياء مفيدة ذات طعم وقيمة غذائية أهمها البلح بعد (بله) وتخلط هذه المواد وتترك لفترة من الزمن بمساعدة النسوة، وقالت الحاجة “نفيسة” إن يوم إضافة المواد وتجهيز عجين (الآبري) يسمى يوم (الكوجين) بعدها يترك ليوم واحد فقط ليعاس مثل (الكسرة) تماماً لكن في (صاجات) كبيرة ويلف في أحجام مختلفة تعرف بـ(الطرقة).
{ من علامات رمضان
ويرى كثيرون أن تحضير (الآبري) يعد من أهم استعدادات شهر رمضان المعظم في السودان، كما يترقب السودانيون بالخارج هذه الأيام عبوات (الآبري) من أهلهم بالسودان، ويلاحظ في مطار الخرطوم الكم الهائل لـ(كراتين الآبري) في طريقها إلى الدول كافة كما تفوح روائحه في بصات السفريات الداخلية القادمة من الولايات خاصة من الجزيرة والشمالية وكردفان، ويسعد المتلقون لهدايا (الآبري) خاصة في الخرطوم التي أضحت تعج أسواقها وتمتلئ بـ(الآبري) الجاهز، وتقول بائعة (الآبري) “خديجة محمد” بالسوق الشعبي إن هذا الشهر الذي يعلن قدوم رمضان يكون مصدر رزق ودخل لها، ورغم غلاء أسعار مواد (الآبري) وارتفاعها عن العام الماضي إلا أن لها زبائن معتمدين للشراء، كما يلجأ إليها كل من لا يستطيع عمل (الآبري) في بيته، وتتراوح أسعار البيع، فكرتونة (الآبري) هذا العام ما بين (150) و(200) جنيه وتعبأ الكرتونة على حسب عدد اللفافات.
ويعد مشروب (الآبري) من المشروبات المفضلة في الشهر الكريم، وجوده يزين صينية الإفطار السودانية ويفضله البعض بمزجه مع البيبسي أو الكولا خاصة الشباب فيعطي نهكة وطعماً لذيذين، كما يتناوله الكثيرون وقت السحور، ويقال إن مكوناته تقلل من الشعور بالعطش والجوع أثناء الصيام.