الذكرى المنسية
{ وحدها الصحافة السودانية احتفظت للإنقاذ بذكرى وصولها للسلطة قبل يومين، فأفردت الصحف مساحة للذكرى الرابعة والعشرين واستنطقت بعض رموز الإنقاذ الواقفين على الأرصفة والجالسين في المقاعد، وهم حيارى ينظرون للسفينة التي أبحرت بهم، بل أبحروا بها، فترجل من ترجل ورحل من رحل، وصمت آخرون بين الدهشة والأسف والحزن والبكاء على الإطلال.
{ تمر ذكرى الإنقاذ هذا العام، وقد أضحت الثورة التي قيل إنها لا تبالي بالرياح كالوردة بلا عطر وكالعروسة بلا خضاب، وتخلى عنها أبناؤها وصناعها الذين مشوا على الأشواك وجنباتهم تئن من طعن رماح الخصوم. وفي يوم الذكرى قبل سنوات قليلة كانت الإنقاذ تحتفي، ويتحدث الرئيس للجماهير التي حملته على اكتافها، وخاضت معه معارك العزة والكرامة، وصبرت معه وصابرت، ولم تتولَّ ساعة زحف، ولم تخن أمانة. ولكن اليوم الإنقاذ تخلت عن تقاليدها ونسيت ذكرى وصولها للسلطة، بل عطلت احتفالها لأسباب لا تعلمها إلا هي، وغدت ذكرى الإنقاذ يوماً ترفع فيه المعارضة شعارات إسقاط النظام وتلوح بأنها البديل، لأن الذي لا يحتفي بذكرى عزيزة لديه يطمع الآخرون في الوثوب لمقعده.
{ تمر الذكرى الرابعة والعشرون والسودان انقسم لوطنين، وأصبحت الحرب كالماء والهواء، نموت بالآلاف في دارفور وكردفان وتحصد الحروب القبلية الأنفس، ولا تحدثنا أنفسنا بإنقاذ أنفسنا من تلقاء ما صنعت أيدينا، والبؤس والفقر والعوز وضنك العيش قد أحال حياة الأغلبية إلى جحيم لا يطاق، وتلاشى الأمل في النفوس بأن المستقبل أفضل والقريب بعيد، وخيَّم الإحباط مكان التفاؤل، والدموع بدل الابتسامة، وأضحت حتى انتصاراتنا على قلتها بطعم الهزيمة.
{ في مثل هذا اليوم يتذكر الناس وعود الإنقاذ بأنها جاءت لتصون وحدة السودان، فأين أصبح السودان اليوم؟! ويتذكر الناس الوعود بالتغيير الاجتماعي والرهان على الشريعة الإسلامية كميزان عدل وبسط شورى ومنح كل صاحب حاجة حاجته. فأين نحن اليوم؟! تطاول البنيان وملأ الفساد البر والبحر بل أضحت الحياة في السودان اليوم شبه مستحيلة، واختار الآلاف من الأطباء والعلماء من مهندسين وصيادلة الهجرة لأركان الدنيا وأطرافها من أجل الخلاص الذاتي، بعد أن استيأسوا من الخلاص الجمعي، وقد تبدل الحال والمآل، وأضحى الجنيه السوداني في الدرك الأسفل لعملات العالم.
{ في مثل هذا اليوم يتذكر الناس سمات قيادات مجلس قيادة الثورة والذين من أمامهم والذين من خلفهم من قيادات التيار الإسلامي، أين هم الآن؟! وقد أصبح نصف الذين صنعوا الحدث أقرب لمعارضة النظام، بل دخل بعضهم السجون متهمين بالتآمر على أمهم، وذهب بعضهم لسجن (السائر) باقين إلى حين السداد في معاملات مالية، وقفز على ظهر السفينة من كان معادياً لها، وامتص ما تبقى من لبن ثديها، لأن قناعات قد تبدلت ومواقف تغيرت، فلا عجب إن مرت ذكرى الإنقاذ بلا بريق، ولا حتى تحية من الإنقاذ لمن رعاها وساهم في ميلادها وتعليمها القراءة وفك الخط.
{ شكراً لولاية شمال دارفور التي احتفلت بذكرى الإنقاذ في رمزية طلاب الولاية المتفوقين في امتحانات الشهادة السودانية في مدرسة الفاشر الثانوية، وما أدراك ما الفاشر زمانها وبريقها، حينما كانت تحتفظ بثلاثين مقعداً سنوياً بكلية الهندسة، وعشرين بكلية الطب بجامعة الخرطوم، بل الآن أين جامعة الخرطوم نفسها؟! حينما كانت دارفور آمنة ومطمئنة كانت الفاشر الثانوية منارتها وحادي ركبها. وأمس الأول شهدنا محاولة إعادة البريق القديم وشمال دارفور تكرم عشرة من النوابغ من بينهم الطالب “عبد الناصر محمد إسماعيل” الذي أحرز (91%) وهو طالب من معسكر “أبوشوك” للنازحين قادم من منطقة “كورما” حصدت الحرب روح والده في أحداث “كورما” الشهيرة في العام 2003م، فأخذ يقرأ عبر المصباح الزيتي، ولم تهن عزيمته وتكسر الحرب إرادته فحقق هذا النجاح في زمن أدمنا فيه الفشل!!